وروي أن موسى عليه السلام لما كلم ربه تعالى وتقدس، مكث دهراً لا بيسمع كلام أحد من الناس إلا أخذه الغشيان، وما ذلك إلا لأن الحب يوجب عذوبة كلام المحبوب؛ فيخرج من القلب عذوبة كلام ما سواه، بل يتنفر منه كمال التنفر، والأنس بالله ملازمة التوحش من غير الله، بل كان ما يعوق عن الخلوة به يكون من انقل الأشياء على القلب. قال عبد الواحد، مررت براهب فقلت: يا راهب لقد أعجبتك الوحدة، فقال يا هذا لو ذقت حلاوة الوحدة، لاستوحشت إليها من نفسك، قلت يا راهب ما أقل ما تجد في الوحدة؟ قال: الراحة من مداراة الناس، والسلامة من شرهم. قلت يا راهب: متى يذوق العبد حلاوة الأنس بالله قال: إذا صفا الود وخلصت المعاملة، قلت: متى يصفو الود، قال: إذا اجتمع الهم، فصارهما واحداً في الطاعة.
وأطيب الأرض ما للنفس فيه هوى ... سم الخياط مع الأحباب ميدان
ومن كلام أمير المؤمنين قوم هجم بهم العلم على حقيقة الأمر؛ فباشروا روح اليقين، واستلانوا وما استوعره المترفون، وآنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالملإ الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه.
قال عليه السلام خذ من صحتك لسقمك، ومن شبابك لهرمك، ومن فراغك لشغلك ومن حيلتك لوفاتك، فإنك لا تدري ما اسمك غداً؟ روى عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكثروا ذكر هادم اللذات، فإنكم إن ذكرتموه في ضيق وسعه عليكم فرضيتم به فاجرتم، وإن ذكرتموه في غنى بغضه إليكم فجدتم به فاثبتم، فإن المنايا قاطعات الأمال، والليالي مدنيات الأمال، وإن المرء بين يومين يوم قد مضى أحصى فيه علمه فختم به، ويوم بقى لا يدري لعله لا يصل إليه، إن العبد عنده خروج نفسه وحلول رمسه يرى جزاء ما أسلف وقلة غناء ما خلف؛ ولعله من باطل جمعه أو من حق منعه.
أبو الحسن التهامي يرئو ابنه:
حكم المنية في البرية جار ... ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا ترى الإنسان فيها مخبراً ... حتى يرى خبراً من الأخبار