فلا يلتفت إلى هذيان من يزعم أنه وصل إلى كنه الحقيقة، بل احثوا التراب بفيه، فقد ضل وغوى، وكذب وافترى. فإن الأمر أجل وأرفع وأعلى من أن يحيط به عقل بشر.
وأما ما ينقل عن سيد الأولياء وسند الأصفياء أمير المؤمنين كرم الله وجهه من قوله: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا فالمراد غير ذلك لنا في قول سيد البشر: ما عرفناك حق معرفتك. وقول الحكماء: جل جناب الحق عن أن يكونت شريعة لكل وارد، وأن يطلع عليه إلا واحد بعد واحد، لا يريدون به الاطلاع التام ولا يزاحم التمام.
لبعضهم:
لو صادف نوح دمع عيني غرقا ... أو حل بمهجتي الخليل أحترفا
أو حملت الجبال حبي لكم ... مالت وتململت وخرت صعقا
رأيت في كتاب خط قديم أن الحب سر روحاني، يهوي من عالم الغيب إلى القلب، ولذلك سمي هوى، ومن هوى يهوي إذا سقط، ويسمى الحب بالحب لوصوله إلى حبة القلب التي هي منبع الحياة، وإذا اتصل بها سرى مع الحياة في جميع أجزاء البدن، وأثبت في كل جزء صورة المحبوب كما حكي أن الحلاج لما قطعت أطرافه كتب في مواضع الدم: ألله ألله، وفي ذلك قال:
هو ما قد لي عضواً ولا مفصل ... إلا وفيه لكم ذكر
وهكذا حكي عن زليخا: أنها فصدت يوماً فارتسم من دمها على الأرض: يوسف يوسف.
قال صاحب الكتاب: ولا تعجب من هذا، فإن عجائب بحر المحبة كثير.
قال حكيم لرجل كان مولعاً بحب جارية لها مشتغلاً بها عما يهمه من امور معاده: يا هذا هل تشك في أنك لا بد أن تفارقها؟ فقال: نعم قال: فاجعل تلك المرارة المتجرعة في ذلك اليوم في يومك هذا، وأربح ما بينهما من الخوف المنتظر وصعوبة معالجة ذلك بعد الإستحكام واشتداد الإلفة.
مر الجنيد برجل، فرآه يحرك شفتيه، فقال: بم اشتغالك يا هذا؟ قال: بذكر الله، فقال: إنك اشتغلت بالذكر عن المذكور.
ومر الشلبي بمءذن وهو يؤذن، فقال: اشتدت الغفلة فكررت الدعوة.