فيها هذه الأمة لمّا أهملت مهمة الاجتهاد (١) وخاصة لما اجتمعت عليها الأمم كما تجتمع الأكلة إلى قصعتها كل أمة من أمم الكفر معها نافع وضار، نافع يتمثل في ماديات ضرورية وحاجية وضار يتمثل في مبادئ ومفاهيم جاهلية لا تحفظ دينًا ولا عرضًا ولا عقلًا .. بل ترتكس في مجال العقائد والأخلاق إلى مستوى الكفر والشرك والفتنة والإِغراء ونتج عن ذلك أنظمة وضعية تعارفت عليها تلك الأمم وانبثقت من عقائدها وأخلاقها .. وكانت عملية الاجتهاد كفيلة بالتفريق بين الضار والنافع .. وكفيلة أيضًا بمراعاة الأحوال الجديدة التي نشأت من طبيعة المجتمع الصناعي واستنباط أحكامها الخاصة بها ومراعاة الضوابط التي تحفظ الضرورات الخمس الدين والعرض والنفس والعقل والمال، فإن المجتمع الصناعي -وإن كان محتاجًا إلى عملية الاجتهاد كما يحتاجها المجتمع الزراعي والرعوي- إلا أنه أشد حاجة لها، أضف إلى ذلك أن السلبيات التي تنتج عن تعطل مهمة الاجتهاد أو عدم القيام بها على الوجه المطلوب تظهر آثارها على نحو مخيف وخطير في المجتمع الصناعي أشد بكثير من ظهورها في غيره من المجتمعات ذلك أنه مجتمع الحركة الفوارة والتجدد المستمر فإن لم ينضبط بعملية الاجتهاد ازدادت تلك السلبيات واستمرت في الازدياد.
وهذه الحكمة التي تحدثت عنها هي أعظم حكمة لمهمة الاجتهاد لأنها سبيل عظيم للمحافظة على التوحيد وأحكامه الذي تمثله هذه "الشريعة" والمحافظة على المجتمع الإِسلامي من آثار الشرك وأحكامه الذي يمثله الغزو الفكري الحديث.
(١) وقعت الأمة في ضد ذلك تمامًا لمّا أهملت هذه الفريضة وزادت ردود الفعل من داخلها الأمر سوءًا فقد اختلفت مواقف العلماء من آثار النهضة الأوروبية فمنهم من رفضها كلها ومنهم من قبلها بدون تمييز .. وهذان موقفان سلبيان .. ومنهم من نادى بالتمييز بين الضار والنافع .. وهذا موقف إيجابي ولكنه لم يكن له من القوة والانتشار ما يسمح له بإكتساح التيار الذي نتج عن سلبية الموقفين السابقين، وقد كان قيام العلماء بعملية الاجتهاد -كما بينت وعدم اختلافهم عليها وتخلفهم عنها- كفيلًا بأن يحول بين الأمة وما وقعت فيه من تلك السلبيات العظيمة وأعظمها أنها أصبحت فريسة لآثار الغزو الفكري الحديث.