وقد ضرب الإِمام الشاطبي لهذا النوع من الاجتهاد أمثلة: منها اجتهادات ابن القاسم وأشهب في مذهب مالك، وأبي يوسف ومحمد بن الحسن في مذهب أبي حنيفة، والمزني والبويطي في مذهب الشافعي، فإنهم فرعوا المسائل على أصول المذهب على ما فهمه أئمتهم من ألفاظ الشريعة، وعملوا بمقتضى ذلك سواء خالفوا المذهب أم وافقوه، ويعلل الشاطبي صحة هذا النوع من الاجتهاد، بمجموع أمرين:
الأول: أنهم اعتمدوا على معرفتهم لمقصد الشارع من وضع الأحكام ولذلك حل لهم الاجتهاد.
الثاني: أنه لم ينكر عليهم أحد من أهل العلم .. وذلك دليل على صحة الاجتهاد منهم.
والنتيجة التي يصل إليها الشاطبي أن من بلغ في فهم مقاصد الشريعة مبلغهم صح الاجتهاد منه في هذا النوع المشار إليه، وإن لم يبلغ في كلام العرب مبلغ المجتهدين، وأما من بلغ في هذه مبلغهم فله الاجتهاد على الإِطلاق (١).
وإنما قلت أنه لا يعكّر على ذلك، لأن الجهة منفكة، ففي الموضع الأول: لم يكن أحد يستطيع أن يدرك لزوم اتباع المعاني والعلل والمقاصد وهو واقف عند حدود الألفاظ لا يتعداها، إلّا إذا سلم أن العرب الأولين -الذي نزل القرآن بلغتهم ومعهودهم- كانوا لايقفون عند حدود الألفاظ بل يعتبرون المعاني ويقدمونها مع مراعاة المحافظة على اللفظ.
ومن هنا كان وجه الربط بين إدراك وجوب اتباع المعاني وبين معرفة لغة العرب ومعهودهم وقد نزل القرآن بلسانهم. أما الموضع الثاني: فإن من أدرك معهود العرب من لغتهم وسلّم به فإنه قد لا يحتاج إلى لغة العرب في موضع من مواضع الاجتهاد فإذا أراد أن يعمل المقاصد -وقد علمها مجردة عن الألفاظ -كان ترجمت له أو أراد أن يعمل القياس- وقد أخذ المقيس عليه مسلماً- فإنه