للذين شاهدوا، وبلاغها المستفيض لمن بلغه، كافيا في إثبات التوحيد والنبوة معا عن غيرها، ولم يأمنوا أن يوسع الناس في علم الكلام، أن يكون فيهم من لا يكمل عقله ويضعف برأيه، فيرتبك في بعض ضلالات الضالين وشبه الملحدين، فلا يستطيع منها مخرجا، كالرجل الضعيف غير الماهر بالسباحة إذا وقع في ماء غامر قوي لم يؤمن أن يغرق فيه ولا يقدر على التخلص منه، ولم ينهوا عن علم الكلام لأن عينه مذموم أو غير مقيد.
وكيف يكون العلم الذي يتخلص به إلى معرفة الله تعالى وعلم صفاته ومعرفة رسله والفرق بين النبي والمصادق عليه، وبين المتنبي الكاذب عليه، مذموما أو مرغوبا عنه، ولكنهم لإشفاقهم على الضعفة أن لا يبلغوا ما يريدون منه فيصلوا بهوا، وكثيرا من الخاصة كذلك كان الاحتياط للبعض في أن يحصلوا منه ما يقدرون به على جدال المخالفين أن هموا أن يغالبوا بالحجة، ويوهموا المسلمين أن دينهم تقليد وأنهم إن فحصوا عنه تثبيت لهم آثار ذلك فيه: بأنه ليس على أحد من في سرية مطمئن بين أهله وولده أن يشتري السلاح ويجمع ويستغل فعل من قد أحس بعدو يقصده، وبلغه خير عن أحد يريده، ولكن ذلك أن وقع وتحقق فحدث عليه خوف، وتغير له حاله لزمه أن يغير تدبيره ويحكم أمره ويستعد للدفع إن قصد، ويتأهب للدفع إن حضر، ولا يغفل عمن ليس عنه بغافل، ولا يهمل من ليس بمهمل.
هذا وقد يحضر المسلم من الكفار من يقول: إني لا أعرف حجة دينكم، ولا أعلم فيما تدعون إليه برهانا، فإن أقمتم على حجة أذعنت لها! فإن هو لم يقدر على إيراد الحجة عليه أصلا، أو قدر من ذلك على ما هو أصل لدعوة لما يثبت فلما أدخل الكافر عليه شبهة أو أحدث له معارضة، انقطع وبقي حائرا عاجزا لا مزيد عنده على ما كان سمعه، قام الكافر من عنده وهو في كفره أرسخ منه، أرجأه وابتدأ مكالمته ولم يتعد أن يكون المسلم قد جهل حال نفسه وظن أن القصور في الدعوة دون علمه، والخلل في الحجة لا في معرفته، فإذا الرجلان قد تفرقا عن اتفاق على الكفر بعد أن كان يرجى أن يتفرقا عن إيمان.
فينبغي للمسلم أن لا يعطل هذا العلم، ولا يغفل عنه أصلا، بل يعد منه للخصام والجدال مثل ما يعده المقاتل للقتال، والله أعلم.