الدنيا من يرى أنه مخلد غير منقول أبدًا عنها. فإن في ذلك إذا تمكن من قبله لها، استغل عن عبادة الله وطغى، وكأنه بجديته آخرته بقدر عمارته دنياه. فإن الله عز وجل يقول:{فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى} وإذا نجى بما يمثل طبعه إليه وقصر أمله صار همه للاستعداد للآخر والانقطاع عن الدنيا وذلك أحوط. لأنه إن احتضر قريبًا كما يظن كان ساهيًا عن ربه مقدمًا (ما) يحتاج إليه منقلبه، وإن أمهل فكلما ازداد مهلة ازداد طاعة وبرًا وقربة، فكان ذلك أنظر له من أن ينهمك في الدنيا مطيلًا أمله، فإن احتضر قريبًا من حيث لم يظنه، فكان كمن عافصه سفر لا يجد منه بدًا، وهو لا زاد عنه، ولا راحله له، فيلزمه المشي على قديمه، وأسوأ حال وأقبحها. وإن أمهل لم يزدد على الأيام للدنيا إلا حبًا وعلى عمارتها والاستكناف منها إلا حرصًا. فإن مثله مثل الخمر يدعو قليلها إلى كثيرها، ويسرق القصير منها إلى ما فوقها، فمن علم هذا ثم كان منه في عامة أحواله على ما ذكر كما جاءت الوصية به. فقبل أكثروا ذكرها ذم اللذات لم يدع النظر لنفسه بترك الاحتياط إلى الخطأ إن شاء الله. وقد جاء في هذا الباب من الأخبار والآثار ما لا يمكن انتقاؤها لكثرتها، وقد أوردنا منها ما لابد للكاتب من ذكره.
فمنها ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعًا من خبر بر حتى مضى لسبيله. وروى الحسن رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم: يركب الحمار ويلبس الصوف ويأكل على الأرض ويلعق أصابعه ويقول: (إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد). وعن أبي مسلم الخولاني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين ولكن أوحي إلي أن أسبح بحمد ربك، وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) وعن زياد بن جبير رضي الله عنه قال: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم اجعل رزق آل محمد كفافًا، وخير الرزق الكفاف)