وبقي وحده فكبر وعقل ولم ير أنسانا قط، ولا يسمع خبرا إلا أنه يفكر في أمره أول ما اتسع للرأي والنظر ليعلم ما هو وما هذه المحسوسات التي يراها وهل يجب أن يكون لها فاعل؟ أو هي قديمة؟ فلم يزل ينظر ويستدل ولا يغفل عن النظر وقتا إلى وقت تدفعه عنه ضرورة، فمات قبل أن ينتهي استدلاله، فيظهر له ما يطلب، أيموت كافرا أو يموت مسلما؟
قيل له: هذا ينبغي أن ينظر فيه من أصول سبق ذكرها:
أحدها: القول بالميثاق. فمن أثبته زعم أن الناس كلهم مولودون على حكم الميثاق المأخوذ عليهم. فمن نقصه بالكفر زال عنه حكمه، ومن لم ينقصه بحدث يحدثه ثبت له حكمه. فقال في هذا الذي مات مستدلا أنه مات مؤمنا ومآبه الجنة.
وهكذا من لم يقل بالميثاق ويزعم أن الله تعالى جعل أصل الناس الاستقامة، كما جعل أصل الماء الطهارة، فكذلك يقول أيضا. ومن قال: أصل الناس انه لا يدن لأحد منهم بنفسه، ولكن يجعل في صغره تابعا لأبويه، وإذا بلغ كان له حكم نفسه، قال أن الذي وقع السؤال عنه لا يمكن أن يكن لأنه لو كان، لا يمكن أن يقطع بأنه يموت كافرا، ولا بأنه يموت مسلما.
وقد قسم الله عباده قسمين، فقال:{هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن}، ولما قسمهم في الآخرة جعلهم بين وعد ووعيد، فقال:{فمنهم شقي وسعيد} وقال: {فريق في الجنة وفريق في السعير} فثبت أن أحدا ألا يخرج من هذين القسمين. وصح أن المسألة بنفسها فاسدة، وجوابها أن المولود الذي سئل عنه إن كان بلغ حد الاستدلال. فإن الله تعالى يمهله إلى ينهي استدلاله حقا فيصيب، أو ينهيه وعند نفسه باطلا فيخطئ فيحق له الوعد أو يحق عليه الوعيد ولا يعاجله بالاحترام قبل أحد هذين والله أعلم.
فإن قيل: أرأيتم إذا استدل أو عرف الحق فآمن بالله كان إيمانه ذلك فرضا أداه، وكان استدلاله وإيمانه حسنين عند الله تعالى أولا. فإن قلتم: لم يكونا حسنين لزمكم أن تقولوا كانا قبيحين. وإن قلتم: كانا حسنين فقد اعترفت بأن الإيمان حسن لعينه، وإن