إذ لو كانت الملائكة جنا لم يخل عباد من أن يكونوا عباد الملائكة فلم يكن لقول الملائكة أنهم كانوا يعبدون الجن ولا يعبدوننا معنى، والله أعلم.
فصل
ثم إن الناس قديما وحديثاً تكلموا في المفاضلة بين الملائكة والبشر، فذهب ذاهبون إلى أن الرسل من البشر، أفضل من الرسل من الملائكة، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة. وهذب آخرون إلى أن الملأ الأعلى مفضلون على سكان الأرض، واحتجوا بقول الله عز وجل:{لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله، ولا الملائكة المقربون}. فبدأ في نفي الاستنكاف من العبودة لله جل ثناؤه من المسيح ثم نبأ بنفيه عن الملائكة.
فدل ذلك على أن الملائكة ارفع قدراً وأعلى مرتبة إذ لم يكونوا كذلك لكان في المعنى ما نفى عن المسيح دلالة على أن من دون بانتفاء ذلك عنه أولى، فقد عقل أن الأعلى رتبة والأرفع درجة إذا لم يأنف منه، فالذي هو أعلى منه يأنف ولا يأنف، فلذلك صار وجه الكلام أن يبدأ في مثل هذا بالأدنى ثم انثني بالأعلى، ألا ترى أنه قال: لن يأنف الوزير أن يدعى خادماً للأمير ولا الكاتب، وما كان كذلك الا لعلو رتبته وارتفاعها عن رتبة الكاتب، وكذلك ما ذكرنا والله أعلم.
ومما يشبه هذا أن ينفي علم عن واحد ثم يعطف عليه غيره (فيقال: ما تدري هذا فلان وفلان، فيكون وجه الكلام الابتداء بالأدنى في العلم منزلة، لأنه قد يجوز أن لا يدري ما يدريه الأفضل، ويبعد أن لا يدري الأفضل، ويدري من هو دونه، فيحتاج إلى نفي العلم بعد نفيه عن الأفضل.
ولكن إذا نفي الجهل عن واحد ثم يعطف عليه غيره، فإنما ينتفي أن يبدأ بأفضلهما فيقال: ما يجهل هذا فلان، ولا الذي هو دونه لأن العرض عن الإنابة عن وضوح ما نفيت الجهالة عنه، وقد يجوز أن يتضح لأفضل الرجلين في العلم ما لا يتضح لمن دونه، فإذا كان بحيث يعلمه قليل العلم كما يعلمه كثير العلم، فذاك هو النهاية من الوضوح.