فصارت الشريعة في هذه الأبواب لموافقتها الأهواء مستعملة، كما صارت في المباحثات لمثل هذا السبب ممثلة، ولولا أن ذلك كذلك، لترك من شرب الخمور ما ترك من لحم الخنزير، ومن الزنا بالأجنبيات ما هجر من نكاح المحارم والقرابات. فعلمنا أن ما اتبع من هذه الشرائع قلما حمل على اتباعها من الدواعي التي بيناها.
ومنها التعامل بالعقود والمحافظة فيها على الحدود، وذلك أن أحدهم لا يقضي عن صاحبه فيما يجب له من حق عليه، ومن اعتدى على آخر في نفس أو مال لم يمسك الآخر عنه، حتى يرافعه إلى سلطانه أو قاضي بلده، فأخذ على يده، وأنصف المظلوم من ظالمه، فصاروا لذلك يتبايعون ويتواهبون ويتكارون ويتعاقدون العقود المشروعة ويذرون الغصب والاختلاس والنهب في الأمر الأكثر، والأعم الأغلب، لمعرفتهم بما يلحقهم فيها من التبعات، ويؤيدهم إليه عقباها من المثلات، ثم قد يتفق خلال ذلك من ذوي الجهالة والسفالة هنات وزلات يئتون فيها من الاعتزاز بأنهم عسى لا يلحقون، ولا يقدر عليهم فيؤاخذون، فتجترئ على ذلك قلوبهم، وتقوى في الشر عزائمهم، وأما من غلب الخوف على قلبه وصار الاحتراز من همه، فما أقل ما تقع منه هذه الأمور، ولهذا صار الطريق المخوف إذا نقص بعضه، أمن الناس فيه مدة، ولم يعرض المكروه فيه إلا ندره. فلولا الردع من الفساد هو ما يخشى من الإنكار الوحي لاستوت الأحوال، وما ارتدع في كل وقت الجهال، ولولا أن ما وصفنا استعمال الناس له من الشرائع بعد انقراض عصري النبوة والخلافة، جاز في الأصل الذي ذكرت لهم استعمالهم أبواب الشريعة كلها دقيقها وجليلها، ولم يشذ عنهم منها إلا ما لم يبلغهم عنه خبر، ولم يأتهم ببيانه أثر، لأن من عمل من أمرين خوطب بهما أحدهما وترك الأخر مع تمكنه منه، واقتداره عليه، فقد أشعر أن عمله لم يكن لمجرد الأمر لكن لداعية (سوء) دعته إليها، ولولا ذلك لما كان فعله ما فعل أولى به من فعل ما ترك، ولا تركه ما ترك أولى به من ترك ما فعل، وما ينبغي أن يكون هذا بكذا مع تجلي آيات الله تعالى جده