مَا نَصُّهُ وَالثَّانِي غَائِبٌ بَعِيدُ الْغَيْبَةِ عَلَى مَسِيرَةِ الْعَشَرَةِ أَيَّامٍ وَشَبَهِهَا فَهَذَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ فِيمَا عَدَا اسْتِحْقَاقِ الرِّبَاعِ وَالْأُصُولِ مِنْ الدُّيُونِ وَالْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ وَتُرْجَى لَهُ الْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ وَفِي الطُّرَرِ وَأَمَّا تَفْلِيسُهُ حَتَّى يَقْضِيَ دَيْنَ مَنْ لَمْ يَحِلَّ دَيْنُهُ، وَيَكُونُ مَنْ وَجَدَ سِلْعَتَهُ أَحَقَّ بِهَا فَإِنْ عُلِمَ مِلَاؤُهُ فَقِيلَ يُفَلَّسُ وَقِيلَ لَا يُفَلَّسُ.
(قَالَ ابْنُ رُشْدٍ) وَهَذَا الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَنَحْوِهَا، وَأَمَّا الْغَيْبَةُ الْبَعِيدَةُ كَالشَّهْرِ وَنَحْوِهِ فَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ تَفْلِيسِهِ فِيهَا وَإِنْ عُلِمَ مِلَاؤُهُ، فَإِنْ جُهِلَتْ حَالَتُهُ فِي غَيْبَتِهِ فَلَا اخْتِلَافَ بِأَنَّهُ يُقْضَى بِذَلِكَ فِي غَيْبَتِهِ إذَا كَانَتْ بَعِيدَةً وَلَا أَنَّهُ لَا يُقْضَى بِذَلِكَ فِي الْغَيْبَةِ الْقَرِيبَةِ حَتَّى يُكْتَبَ فِي أَمْرِهِ وَيُكْشَفَ عَنْ حَالِهِ اهـ بِتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ لِمُحَاذَاةِ كَلَامِ النَّاظِمِ. قَوْلُهُ
وَالْحُكْمُ مِثْلُ الْحَالَةِ الْمُقَرَّرَهْ
أَيْ الْحُكْمُ عَلَى مَنْ عَلَى مَسَافَةِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَنَحْوِهَا مِثْلَ الْحُكْمِ فِي الْحَالَةِ الْمُقَرَّرَةِ أَوَّلًا وَهِيَ الْحَالَةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْغَائِبُ عَلَى مَسَافَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَنَحْوِهَا وَنَائِبُ أَعُمِلَا لِلْحُكْمِ، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ مَعَ عِلْمِ الْمَلَا أَنَّهُ إذَا جُهِلَ مِلَاؤُهُ وَعَدَمُهُ فَإِنَّهُ يُفَلَّسُ اتِّفَاقًا كَمَا تَقَدَّمَ وَالْإِشَارَةُ بِذَا لِلْغَائِبِ غَيْبَةً مُتَوَسِّطَةً وَمَعْنَى " مَالَهُ مِنْ مُنْقِذِ " أَيْ لَا يُسْتَرْجَعُ مِنْ يَدِ مُشْتَرِيهِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ فَمَا، نَافِيَةٌ، وَضَمِيرُ لَهُ لِلْمَبِيعِ، وَالْمُنْقِذُ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَنْقَذَ، وَفَاعِلُ يَقْتَضِي لِلْغَائِبِ وَبَاءُ بِمُوجِبٍ سَبَبِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِيَقْتَضِي، وَمُوجِبُ الرُّجُوعِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْ الدَّيْنِ وَمِنْ الْغَرِيمِ يَتَعَلَّقُ بِيَقْتَضِي، وَالْمُرَادُ بِهِ رَبُّ الدَّيْنِ
وَغَائِبٍ مِنْ مِثْلِ قُطْرِ الْمَغْرِبِ ... لِمِثْلِ مَكَّةَ وَمِثْلِ يَثْرِبَ
مَا الْحُكْمُ فِي شَيْءٍ عَلَيْهِ يَمْتَنِعْ ... وَهُوَ عَلَى حُجَّتِهِ مَا تَنْقَطِعْ
وَالْحُكْمُ مَاضٍ أَبَدًا لَا يُنْقَضْ ... وَمَا بِهِ أُفِيتَ لَا يُنْتَقَضُ
لَكِنَّ مَعَ بَرَاءَةٍ يُقْضَى لَهُ ... بِأَخْذِهِ مِنْ الْغَرِيمِ مَالَهُ
، هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ ذُو الْغَيْبَةِ الْبَعِيدَةِ مِثْلَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ الْمُشَرَّفَةِ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِيَثْرِبَ وَمِثْلَ مِصْرَ وَالشَّامِ مِنْ الْمَغْرِبِ وَمِثْلَ تُونُسَ مِنْ الْأَنْدَلُسِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَالْحُكْمُ يَمْضِي عَلَيْهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ اسْتِحْقَاقِ أَصْلٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ عَلَى حُجَّتِهِ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ وَالْحُكْمُ فِيهِ مِثْلُ الَّذِي قَبْلَهُ فِيمَا بِيعَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُنْقَضُ، وَيَرْجِعُ عَلَى غَرِيمِهِ إذَا ثَبَتَتْ بَرَاءَتُهُ مِنْ الدَّيْنِ
(قَالَ ابْنُ رُشْدٍ) فِي التَّقْسِيمِ السَّابِقِ: وَالثَّالِثُ غَائِبٌ مُنْقَطِعُ الْغَيْبَةِ مِثْلَ مَكَّةَ مِنْ إفْرِيقِيَّةَ وَالْمَدِينَةِ مِنْ الْأَنْدَلُسِ وَخُرَاسَانَ فَهَذَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الدُّيُونِ، وَالْحَيَوَانِ، وَالْعُرُوضِ، وَالرِّبَاعِ، وَالْأُصُولِ، وَتُرْجَى لَهُ الْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِّ فِي نَوَازِلِهِ: وَإِذَا بِيعَ عَلَى الْغَائِبِ مِلْكُهُ فِي دَيْنٍ ثَابِتٍ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَدِمَ وَأَثْبَتَ الْبَرَاءَةَ مِنْهُ كَانَ الْبَيْعُ فِي الْمِلْكِ ثَابِتًا وَيَرْجِعُ عَلَى الْغَرِيمِ بِمَا قَبَضَهُ مِنْ ثَمَنِهِ وَلَا يُعَدَّى فِي الْمِلْكِ بِشَيْءٍ اهـ
(قَالَ الشَّارِحُ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الْجَارِيَةُ الْوَاقِعَةُ لِشَيْخِنَا قَاضِي الْجَمَاعَةِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ سِرَاجٍ وَوَقَعَ فِيهَا الْخِلَافُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَثِيرِ مِنْ مُعَاصِرِيهِ وَصُورَتُهَا أَنَّ تَاجِرًا كَانَ تَسَرَّى جَارِيَةً بِغِرْنَاطَةَ وَغَابَ إلَى نَاحِيَةِ تُونُسَ، فَطَالَتْ غَيْبَتُهُ بِهَا وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ تَدَّعِي أَنَّهَا بِحَالِ ضَيَاعٍ، فَكَفَلَهَا بَعْضُ حَاشِيَةِ السُّلْطَانِ مِمَّنْ لَهُ وَجَاهَةٌ فِي الدَّوْلَةِ، وَكَتَبَ عَلَى سَيِّدِهَا النَّفَقَةَ، إلَى أَنْ تُحُمِّلَ لَهُ قِبَلَهُ قَرِيبٌ مِنْ مِقْدَارِ ثَمَنِهَا فَرُفِعَ أَمْرُهُ لِلْقَاضِي وَأَثْبَتَ دَيْنَهُ ذَلِكَ الْمُتَرَتِّبَ مِنْ النَّفَقَةِ، وَغَيْبَةَ مَالِكِ الْجَارِيَةِ وَصِحَّةَ مِلْكِهِ إيَّاهَا وَحَلَفَ عَلَى الْمُتَحَمِّلِ لَهُ وَقُوِّمَتْ الْجَارِيَةُ وَصُيِّرَتْ فِي النَّفَقَةِ لِكَافِلِهَا فَأَعْتَقَهَا، وَتَزَوَّجَهَا، وَوَقَفَ لِلتَّاجِرِ مَا فَضَلَ مِنْ ثَمَنِهَا، ثُمَّ قَدِمَ التَّاجِرُ مَالِكُهَا الْأَوَّلُ، وَبَعْدَ بَيْعِهَا بِأَشْهُرٍ.
فَتَظَلَّمَ مِنْ بَيْعِ الْجَارِيَةِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ وَادَّعَى أَنَّهُ تَرَكَ لَهَا مَا تَقُومُ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ الْغَيْبَةِ وَأَنَّ لَهَا صَنْعَةً يُمْكِنُهَا إتْمَامُ نَفَقَتِهَا بَعْد مَا تَرَكَ لَهَا مِنْ صَنْعَةِ يَدِهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الدَّعَاوَى الَّتِي رُبَّمَا لَمْ تَثْبُت لَهُ وَكَانَ يَتَعَلَّقُ مِنْ الدَّوْلَةِ بِجِهَةٍ لَا تَقْصُرُ عَنْ تَعَلُّقِ خَصْمِهِ فَكَانَ هَذَا الْخِصَامُ مُتَكَافِئًا فِي الِاسْتِظْهَارِ بِالْوَجَاهَةِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْخَصْمَيْنِ وَثَبَتَ الشَّيْخُ عَلَى حُكْمِهِ أَيْ مِنْ تَصْيِيرِ الْجَارِيَةِ لِلَّذِي أَنْفَقَ عَلَيْهَا فِي نَفَقَتِهِ وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ وَلَمْ يُلِمَّ شَيْخُنَا الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِإِثْبَاتِ عَجْزِهَا عَنْ النَّفَقَةِ مِنْ صَنْعَتِهَا وَلَا إثْبَاتِ كَوْنِ مَالِكِهَا لَمْ يَتْرُكْ لَهَا نَفَقَةً. وَقَدْ وَقَعَتْ لِابْنِ عَبْدِ الرَّفِيعِ فِي مُفِيدِهِ قَالَ: إذَا قَامَتْ مَمْلُوكَةٌ عِنْدَ الْقَاضِي وَذَكَرَتْ