للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَانْعَقَدَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ، وَأَخَذَ بِهِ الشُّيُوخُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ لَا يَمِينَ عَلَى مَنْ اسْتَحَقَّ شَيْئًا مِنْ الرَّيْعِ وَالْأُصُولِ، ثُمَّ قَالَ: وَاتَّفَقُوا فِي غَيْرِ الْأُصُولِ بِأَنَّهُ لَا يُقْضَى لِمُسْتَحِقٍّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَحْلِفَ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ:

وَحَيْثُمَا يَقُولُ: مَا لِي مَدْفَعٌ

الْأَبْيَاتِ الثَّلَاثَةَ إلَى أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ مِنْ يَدِهِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُسَلِّمَ ذَلِكَ وَلَا يُنَازِعَ فِيهِ، وَلَا يَدَّعِي فِيهِ مَدْفَعًا، وَحِينَئِذٍ فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الَّذِي بَاعَ لَهُ بِمَا دَفَعَ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ ذَلِكَ، وَيَدَّعِي أَنَّ لَهُ مَدْفَعًا فِي الِاسْتِحْقَاقِ الْمَذْكُورِ.

وَالْحُكْمُ حِينَئِذٍ أَنَّ الْقَاضِيَ يَضْرِبُ لَهُ أَجَلَهُ لِثُبُوتِ مَا ادَّعَى مِنْ الْمَدْفَعِ، فَإِنْ انْقَضَى الْأَجَلُ، وَأَتَى بِالْمَدْفَعِ الَّذِي يُبْطِلُ الِاسْتِحْقَاقَ بَقِيَ شَيْؤُهُ بِيَدِهِ، وَلَا إشْكَالَ إنْ عَجَزَ عَنْهُ، أَخَذَ الْمُسْتَحِقُّ شَيْأَهُ، وَلَا رُجُوعَ لِلْمُسْتَحَقِّ مِنْ يَدِهِ عَلَى الْبَائِعِ لَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ رُجُوعِهِ عَلَيْهِ هُوَ الِاسْتِحْقَاقُ، وَهُوَ قَدْ كَذَّبَ شُهُودَهُ بِدَعْوَاهُ الدَّفْعَ فِي شَهَادَتِهِمْ، وَمُقِرٌّ بِصِحَّةِ مِلْكِ الْبَائِعِ لَهُ، وَأَنَّ الْقَائِمَ عَلَيْهِ ظَالِمٌ لَهُ، فَكَيْفَ يَرْجِعُ بِمَا يَعْتَقِدُ بُطْلَانَهُ؟ ، وَكَذِبَ شُهُودِهِ (قَالَ فِي الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ) : فَإِنْ ادَّعَى مَدْفَعًا، أَجَّلَهُ فِي ذَلِكَ مَا جَرَى بِهِ الْعَمَلُ فِي التَّأْجِيلِ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِمَدْفَعٍ حَكَمَ بَعْدَ يَمِينِ الَّذِي ثَبَتَ لَهُ الْمِلْكُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ قِيَامٌ بَعْدَ ادِّعَائِهِ عَلَى مَنْ بَاعَ مِنْهُ إذْ قِيَامُهُ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي شَهِدَتْ، فَإِذَا كَذَّبَ الْبَيِّنَةَ لَمْ يَجِبْ لَهُ بِهَا قِيَامٌ، وَإِنْ قَالَ لَا مَدْفَعَ عِنْدِي إلَّا أَنِّي أُرِيدُ الرُّجُوعَ عَلَى مَنْ بَاعَ مِنِّي، عُقِدَ ذَلِكَ مِنْ مَقَالِهِ، وَاسْتُحْلِفَ الْمُسْتَحِقُّ لَهَا عَلَى مَا وَيُقْضَى لَهُ بِهَا اهـ.

وَالْأَصْلُ لَا تَوْقِيفَ فِيهِ إلَّا ... مَعْ شُبْهَةٍ قَوِيَّةٍ تَجَلَّى

وَفِي سِوَى الْأَصْلِ بِدَعْوَى الْمُدَّعِي ... بَيِّنَةً حَاضِرَةً فِي الْمَوْضِعِ

يَعْنِي أَنَّ مَنْ ادَّعَى مِلْكِيَّةَ شَيْءٍ بِيَدِ غَيْرِهِ، وَطَلَبَ أَنْ يُوقَفَ لَهُ، وَأَنْ تُرْفَعَ يَدُ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ عَنْهُ إلَى أَنْ يُقِيمَ هُوَ بَيِّنَةً، وَيُسَمَّى ذَلِكَ تَوْقِيفًا، وَحَيْلُولَةً، فَإِنَّهُ لَا يُجَابُ لِذَلِكَ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، بَلْ لَا يُوقَفُ لَهُ إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ، وَأَجْمَلَ فِي الشُّبْهَةِ الْقَوِيَّةِ اعْتِمَادًا مِنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى مَا قَدَّمَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ الشَّهَادَةِ، وَهِيَ الَّتِي تُوجِبُ التَّوْقِيفَ، أَنَّ التَّوْقِيفَ فِي الْأُصُولِ يَكُونُ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا أَنْ يَشْهَدَ بِمِلْكِيَّةِ الشَّيْءِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ عَدْلَانِ، وَبَقِيَ لِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ الْإِعْذَارُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.

الثَّانِي: أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ عَدْلٌ وَاحِدٌ. الثَّالِثُ: أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ رَجُلَانِ يُنْظَرُ فِي تَزْكِيَتِهِمَا، وَإِنَّمَا يُوقَفُ فِي هَذَا الْوَجْهِ فَائِدَةُ الْأَصْلِ، لَا الْأَصْلُ نَفْسُهُ، فَلَا يُوقَفُ بِهِ بِخِلَافِ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، فَإِنَّهُ يُوقَفُ بِهِمَا الْأَصْلُ نَفْسُهُ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي كَيْفِيَّةِ الْوَقْفِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَصْدُقُ كَلَامُ النَّاظِمِ هُنَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ التَّوْقِيفَ حَاصِلٌ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالتَّوْقِيفُ فِي غَيْرِ الْأُصُولِ يَكُونُ بِدَعْوَى بَيِّنَةٍ حَاضِرَةٍ، وَقَدْ أَشَارَ لَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ:

وَمُدَّعِي كَالْعَبْدِ وَالنِّشْدَانِ

إلَى أَنْ قَالَ:

حَيْثُ ادَّعَى بَيِّنَةً حُضُورَا

وَأَشَارَ لَهُ هُنَا بِالْبَيْتِ الثَّانِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فَرَاجِعْهُ، ثَمَّةَ.

وَقَوْلُهُ تَجَلَّى: هُوَ عَلَى حَذْفِ إحْدَى التَّاءَيْنِ أَصْلُهُ تَتَجَلَّى وَجُمْلَةُ تَجَلَّى: أَيْ تَظْهَرُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِشُبْهَةٍ، وَقَوْلُهُ: بِدَعْوَى الْمُدَّعِي: يَتَعَلَّقُ بِمُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ تُوقَفَ بِدَعْوَى الْمُدَّعِي.

وَمَا لَهُ عَيْنٌ عَلَيْهَا يُشْهَدُ ... مِنْ حَيَوَانٍ أَوْ عُرُوضٍ تُوجَدُ

يَعْنِي أَنَّ الشَّيْءَ الْمُسْتَحَقَّ إذَا لَمْ يَكُنْ أَصْلًا، بَلْ مِمَّا يُنْقَلُ مِنْ مَوْضِعٍ لِآخَرَ كَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ تَكُونُ عَلَى عَيْنِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ لِسُهُولَةِ إحْضَارِهِ عِنْدَهُ، وَأَمَّا الْأُصُولُ، فَيُكْتَفَى فِيهَا بِالْحِيَازَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>