الذين خرَّج عنهم فيه مئتان وتسعةٌ وثمانون، وعدد من تفرَّد بالرِّواية عنهم دون مسلمٍ مئةٌ وأربعةٌ وثلاثون، وتفرَّد أيضًا بمشايخَ لم تقع الرِّواية عنهم لبقية أصحاب الكتب الخمسة إلَّا بالواسطة، ووقع له اثنان وعشرون حديثًا ثلاثيَّات الإسناد، والله سبحانه الموفِّق والمعين.
وأمَّا فضيلة «الجامع الصَّحيح»: فهو -كما سبق- أصحُّ الكتب المؤلَّفة في هذا الشَّأن، والمُتلقَّى بالقبول من العلماء في كلِّ أوانٍ، قد فاق أمثاله في جميع الفنون والأقسام، وخُصَّ بمزايا من بين دواوين الإسلام، شهد له بالبراعة والتَّقدُّم الصَّناديد العِظَام، والأفاضل الكرام، ففوائده أكثر من أن تُحصَى، وأعزُّ من أن تُستقصَى، وقد أنبأني غير واحدٍ عن المسندة الكبيرة عائشة بنت محمَّد بن عبد الهادي: أنَّ أحمد بن أبي طالبٍ أخبرهم: عن عبد الله بن عمر بن عليٍّ: أن أبا الوقت أخبرهم عنه سماعًا قال: أخبرنا أحمد بن محمَّد بن إسماعيل الهروِيُّ شيخ الإسلام، سمعت خالد بن عبد الله المروزيَّ يقول: سمعت أبا سهلٍ محمَّد بن أحمد المروزيَّ يقول: سمعت أبا زيدٍ المروزيَّ يقول: «كنت نائمًا بين الرُّكن والمقام، فرأيت النَّبيَّ ﷺ في المنام، فقال لي: يا أبا زيدٍ؛ إلى متى تدرس كتاب الشَّافعيِّ وما تدرس كتابي؟ فقلت: يا رسول الله؛ وما كتابك؟ قال: جامع محمَّد بن إسماعيل».
وقال الذَّهبيُّ في «تاريخ الإسلام»: وأمَّا «جامع البخاريِّ الصَّحيح»؛ فَأَجَلُّ كتب الإسلام وأفضلها بعد كتاب الله تعالى، قال: وهو أعلى في وقتنا هذا إسنادًا للنَّاس، ومن ثلاثين سنةً يفرحون بعلوِّ سماعه، فكيف اليوم؟! فلو رحل الشَّخص لسماعه من ألف فرسخٍ؛ لَمَا ضاعت رحلته. انتهى.
وهذا قاله الذَّهبيُّ ﵀ في سنة ثلاثَ عَشْرَةَ وسبعِ مئةٍ.
ورُوِيَ بالإسناد الثَّابت عن البخاريِّ أنَّه قال: رأيت النَّبيَّ ﷺ وكأنَّني واقفٌ بين يديه، وبيدي مروحةٌ أذبُّ بها عنه، فسألت بعض المعبِّرين، فقال لي: أنت تذبُّ عنه الكذب، فهو الذي حملني على إخراج «الجامع الصَّحيح»، وقال: ما كتبت في «الجامع الصَّحيح» حديثًا إلَّا اغتسلت قبل ذلك وصلَّيت ركعتين، وقال: خرَّجته من نحو ستِّ مئة ألف حديثٍ، وصنَّفته في ستَّ عشْرةَ سنةً، وجعلته حجَّةً فيما بيني وبين الله تعالى، وقال: ما أدخلت فيه إلَّا صحيحًا، وما تركت من الصَّحيح أكثرُ حتَّى لا يطولَ، وقال: صنَّفت كتابي «الجامع» في المسجد الحرام، وما أدخلت فيه حديثًا حتَّى استخرت الله تعالى وصلَّيت ركعتين، وتيقَّنت صحَّته.
قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله تعالى: والجمع بين هذا وبين ما رُوِيَ: أنَّه كان يصنِّفه في البلاد: أنَّه ابتدأ تصنيفه وترتيب أبوابه في المسجد الحرام، ثمَّ كان يخرِّج الأحاديث بعد ذلك في بلده وغيرها، ويدلُّ عليه قوله: إنَّه أقام فيه ستَّ عشْرةَ سنةً، فإنَّه لم يجاور بمكَّة هذه المدَّة كلَّها.
وقد روى ابن عديٍّ عن جماعةٍ من المشايخ: أنَّ البخاريَّ حوَّل تراجم «جامعه» بين قبر النَّبيِّ ﷺ ومنبره، وكان يصلِّي لكلِّ ترجمةٍ ركعتين، ولا ينافي هذا أيضًا ما تقدَّم؛ لأنَّه يحمل على أنَّه في الأوَّل كتبه في المُسودَّة، وهنا حوَّله من المُسوَّدة إلى المُبيضَّة.
وقال الفَِرَبْريِّ: قال لي محمَّد بن إسماعيلَ: ما وضعت في الصَّحيح حديثًا إلَّا اغتسلت قبل ذلك وصلَّيت ركعتين، وأرجو أن يبارك الله تعالى في هذه المصنَّفات.
وقال الشَّيخ أبو محمَّدٍ عبد الله بن أبي جَمْرَة: قال لي مَن لقيت من العارفين عمَّن لقيه من السَّادة المُقَرِّ لهم بالفضل: إنَّ «صحيح البخاريِّ» ما قُرِئَ في شدَّةٍ إِلَّا فُرِجَت، ولا رُكِبَ به في مركبٍ فغرق. قال: وكان مُجابَ الدُّعاء، وقد دعا لقارئه رحمه الله تعالى.
وقال الحافظ عماد الدِّين ابن كثيرٍ: وكتاب البخاريِّ «الصَّحيح» يُستسقَى بقراءته الغمامُ، وأجمع على قبوله وصحَّة ما فيه أهلُ الإسلام. وما أحسن قول البرهان القيراطيِّ ﵀:
حدِّث وشنِّف بالحديث مسامعي … فحديثُ مَنْ أهوى حليُّ مسامعي
لله ما أحلى مكرَّره الذي … يحلو ويعذب في مذاق السَّامع
بسماعه نلتُ الذي أمَّلتُه … وبلغتُ كلَّ مطالبي ومطامعي
وطلعتُ في أفق السَّعادة صاعدًا … في خير أوقاتٍ وأسعدِ طالعِ
ولقد هُديتُ لغاية القصد التي … صحَّت أدلَّته بغير ممانعِ
وسمعت نصًّا للحديث معرَّفًا … ممَّا تضمَّنه كتاب «الجامع»
وهو الذي يُتلَى إذا خَطْبٌ عَرا …
الشيخ العيني في مقدمة شرحه، وسيأتي للشارح سردها في القصيدة الآتية.
قوله: (تَدْرُسُ كِتَابَ الشَّافِعِيِّ) في «القاموس»: درس الكتاب يَدْرُسُهُ ويَدْرِسُهُ؛ أي: بضمِّ الراء وكسرها دَرْسًا ودِرَاسَةً، قرأهُ، كأَدْرَسَهُ ودَرَّسَهُ. انتهى.
قوله: (لَما ضَاعَتْ رِحْلَتُهُ) الرِّحْلَةُ بالكسر والضم لغة: اسم من الارتحال، وقال أبو زيد: الرّحلة بالكسر اسم من الارتحال، وبالضمِّ الشيء يُرتحل إليه، فيُقالُ: قَرُبَتْ رِحلتنا بالكسر، وأنت رُحْلَتُنَا بالضم: أي المقصد الذي نقصده. انتهى.
قوله: (وَبِيَدِي مِرْوَحَةٌ) بكسر الميم آلة يروَّح بها؛ أي: يجلب بها الهواء.
وقوله: (أَذُبُّ عَنْهُ) من باب: قتلَ؛ أي: أَدْفَعُ، كما في «المصباح».
قوله: (فَهُوَ الَّذِي حَمَلَنِي … ) إلى آخره، قد يُقال هذا يُعارض ما أسلفناهُ عنه أنَّه قال: كنا عند إسحاق ابن رَاهُوْيَه فقال: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة النَّبيِّ ﷺ، قال: فوقع ذلك في قلبي، فأخذتُ في جمع الجامع الصحيح، قلتُ: يُمكنُ الجمع بحصولِ كلٍّ ولا مانع من تعددِ السببِ.
قوله: (مَا أَدْخَلْتُ فِيْهِ إِلَّا صَحِيْحًا) تقدَّمَ أنَّ المرادَ: ما ذكرتَ فيهِ مُسندًا إلَّا ما صحَّ.
وقال القُرطبي: وكذلك لا يُعَلِّقُ في كتابه إلَّا ما كان صحيحًا في نفسه مُسندًا كذلك لكنه ليس على شرطه، فلم يسنده ليفرِّقَ بين ما كان على شرطه في أصل كتابه وما كان ليس كذلك.
قوله: (ثُمَّ كَانَ يُخَرِّجُ الأَحَادِيْثَ بَعْدَ ذَلِكَ … ) إلى آخره، يظهُر لي عكسُ ذلك، وأنَّه خَرَّجَ الأحاديث أولًا في تلك المدة وجمعها في مُسوداتها، ثم ترجم لها وبيضها في المسجد الحرام، وبين قبر ومنبر النَّبيِّ ﵊.
قوله: (الغَمَام)؛ أي: المطر.
قوله: (وشَنِّفَ) بالشين المعجمة والنون، آخره فاء؛ أي: زيِّنْ مسامعي بالحديث الشبيه بالشَّنف، وهو ما يُعلق في رأسِ الأذنِ.
والقُرْط بضم القاف ما يعلق في أدناها، وفي الكلام تصريحية أو مكنية.
قوله: (فَحَدِيْثُ مَنْ أَهْوَاهُ … ) إلى آخره، في نسخٍ ثبوتُ الضمير في أهواه، وفي أخرى حذفه، فعلى ثبوته يتعين في (حلي) أن يكون بفتح الحاء المهملة وسكون اللام، وهو: ما تتحلى به المرأة، وعلى حذفه يكون بضم الحاء وكسر اللام، جمع حلي المذكور، وأصله على فعول مثل فَلْس وفُلُوس، كما في «المصباح» وعلى كلٍّ ففي (المَسامع) مكنيَّةٌ لا تخفى.
قوله: (فِيْ مَذَاقِ السَّامِعِ)؛ أي: في ذوقه.
قوله: (إِذَا خَطْبٌ) بفتح