ذلك غنجار في ترجمة البخاريِّ بسندٍ صحيحٍ إلى محمَّد بن نصرٍ المروزيِّ الإمام المشهور، أنَّه سمع البخاريَّ يقول ذلك.
وقال أبو حامدٍ الشَّرقيُّ: سمعت الذُّهليَّ يقول: القرآن كلام الله غير مخلوقٍ، ومن زعم: لفظي بالقرآن مخلوقٌ فهو مبتدعٌ، لا يجلس إلينا، ولا نكلِّم من يذهب بعد هذا إلى محمَّد بن إسماعيل، فانقطع النَّاس عن البخاريِّ إلَّا مسلم بن الحجَّاج وأحمد بن سلمة، وبعث مسلمٌ إلى الذُّهليِّ جميع ما كان كَتَبَ عنه على ظهر حمَّال، وقال الذُّهليُّ: لا يساكنني محمَّد بن إسماعيل في البلد، فخشيَ البخاريُّ على نفسه، وسافر منها.
قال في «المصابيح»: ومن تمام رسوخ البخاريِّ في الورع أنَّه كان يحلف بعد هذه المحنة أنَّ الحامدَ عنده والذامَّ من النَّاس سواءٌ؛ يريد أنَّه لا يكره ذامَّه طبعًا، ويجوز أن يكرهه شرعًا، فيقوم بالحقِّ لا بالخطِّ، وتحقَّق ذلك من حالته إذْ لم يَمْحُ اسمَ الذُّهليِّ من «جامعه»، بل أثبت روايته عنه، غير أنَّه لم يوجد في كتابه إِلَّا على أحد وجهين؛ إمَّا أن يقول: حدَّثنا محمَّد ويقتصر، وإمَّا أن يقول: حدَّثنا محمَّد بن خالدٍ، فينسبه إلى جدِّ أبيه. وقد سُئِلَ عن وجه
إجماله وإبقاء ذكره بنسبه المشهور، فأجاب بأن قال: لعلَّه لمَّا اقتضى التَّحقيق عنده أن يُبقي روايته عنه؛ خشية أن يكتم علمًا رزقه الله تعالى على يديه، وعذره في قدحه بالتَّأويل؛ خشي على النَّاس أن يقعوا فيه بأنَّه قد عدَّل من جرحه، وذلك يوهم أنَّه صدَّقه على نفسه، فيجرُّ ذلك إلى البخاريِّ وهنًا، فأخفى اسمه وغطَّى رسمه وما كتم علمه، والله أعلم بمراده من ذلك.
ولو فتحنا باب تعديد مناقبه الجميلة، ومآثره الحميدة؛ لخرجنا عن غرض الاختصار. ولمَّا رجع إلى بخارى نُصِبَت له القباب على فرسخٍ من البلد، واستقبله عامَّة أهلها حتَّى لم يبق مذكورٌ، ونُثِرَ عليه الدَّراهم والدَّنانير، وبقي مدَّةً يحدِّثهم، فأرسل إليه أمير البلد خالد بن محمَّدٍ الذُّهليُّ، نائب الخلافة العباسيَّة، يتلطَّف معه، ويسأله أن يأتيه بالصَّحيح، ويحدِّثهم به في قصره، فامتنع البخاريُّ من ذلك، وقال لرسوله: قل له: أنا لا أُذِلُّ العلمَ، ولا أحمله إلى أبواب السَّلاطين، فإن كانت له حاجةٌ إلى شيءٍ منه فليحضر إلى مسجدي أو داري، فإن لم يعجبك هذا فأنت سلطانٌ، فامنعني من المجلس؛ ليكون لي عذرٌ عند الله يوم القيامة أنِّي لا أكتم العلم. فحصلت بينهما وحشةٌ، فأمره الأمير بالخروج عن البلد، فدعا عليه وكان مُجابَ الدَّعوة، فلم يأتِ شهرٌ حتَّى ورد أمرُ الخلافة بأن يُنادَى على خالدٍ في البلد، فنُودِي على خالدٍ على أتانٍ، وحُبِسَ إلى أن مات، ولم يبق أحدٌ ممَّن ساعده إلَّا ابتُلِي ببلاءٍ شديدٍ.
ولما خرج البخاريُّ من بخارى كتب إليه أهل سمرقند يخطبونه إلى بلدهم، فسار إليهم، فلمَّا كان بخَرْتَنْك؛ بفتح الخاء المُعجَمة وإسكان الرَّاء وفتح الفوقيَّة وسكون النُّون بعدها كافٌ، وهو على فرسخين من سمرقند بلغه أنَّه قد وقع بينهم بسببه فتنةٌ؛ فقومٌ يريدون دخوله، وآخرون يكرهونه، وكان له أقرباءُ بها، فنزل عندهم حتَّى ينجليَ الأمر، فأقام أيَّامًا، فمرض، حتَّى وُجِّهَ إليه رسولٌ من أهل سمرقند، يلتمسون خروجه إليهم، فأجاب وتهيَّأ للرُّكوب، ولبس خفَّيه وتعمَّم، فلمَّا مشى قدر عشرين خطوةً أو نحوها إلى الدَّابَّة ليركبها؛ قال: أرسلوني فقد ضَعُفْتُ، فأرسلوه، فدعا بدعواتٍ، ثمَّ اضطجع، فقضى، فسال عرقٌ كثيرٌ لا يُوصَف، وما سكن منه العرق حتَّى أُدرِج في أكفانه.
ورُوِيَ: أنَّه ضجر ليلةً، فدعا بعد أن فرغ من صلاة اللَّيل: اللهمَّ قد ضاقت عليَّ الأرض بما رَحُبَتْ، فاقبضني إليك، فمات في ذلك الشَّهر ليلة السَّبت ليلةَ عيد الفطر، سنة ستٍّ وخمسين ومئتين، عن اثنتين وستِّين سنةً إلَّا ثلاثة عشر يومًا، وكان أوصى أن يُكفَّن في ثلاثة أثوابٍ ليس فيها قميصٌ ولا عمامةٌ، ففُعِلَ به ذلك، ولمَّا صُلِّيَ عليه، ووُضِعَ في حفرته فاح من تراب قبره رائحةٌ طيِّبةٌ كالمسك، ودامت أيَّامًا، وجعل النَّاس يختلفون إلى قبره مدَّةً يأخذون منه.
وقال عبد الواحد بن آدم الطَّواويسيُّ: رأيت النَّبيَّ ﷺ، ومعه جماعةٌ من أصحابه، وهو واقفٌ في موضعٍ، فسلَّمت عليه، فردّ عليَّ السَّلام، فقلت: ما وقوفك هنا يا رسول الله؟ قال: أنتظر محمَّد بن إسماعيل، قال: فلمَّا كان بعد أيَّامٍ، بلغني موته، فنظرت فإذا هو في السَّاعة التي رأيت فيها النَّبيَّ ﷺ، ولمَّا ظهر أمره بعد وفاته خرج بعض مخالفيه إلى قبره، وأظهروا التَّوبة والنَّدامة. وقال أبو عليٍّ الحافظ: أخبرنا أبو الفتح نصر بن الحسن السَّمرقنديُّ، قدم علينا بَلَنْسِيَة عام أربعةٍ وستِّين وأربع مئةٍ، قال: قحط المطر عندنا بسمرقند في بعض الأعوام، فاستسقى النَّاس مرارًا، فلم يُسقَوا، فأتى رجلٌ صالحٌ معروفٌ بالصَّلاح إلى قاضي سمرقند، وقال له: إنِّي قد رأيت رأيًا أعرضه عليك، قال: وما هو؟ قال: أرى أن تخرج ويخرج النَّاس معك إلى قبر الإمام محمَّد بن إسماعيل البخاريِّ، ونستسقيَ عنده، فعسى الله أن يسقيَنا، فقال القاضي: نِعْمَ ما رأيت، فخرج القاضي ومعه النَّاس، واستسقى بهم، وبكى النَّاس عند القبر، وتشفَّعوا بصاحبه، فأرسل الله تعالى السَّماء عليهم بماءٍ عظيمٍ غزير، أقام النَّاس من أجله بخَرْتَنْكَ سبعة أيَّامٍ أو نحوها، لا يستطيع أحدٌ الوصول إلى سمرقند من كثرة المطر وغزارته، وبين سمرقند وخرتنك ثلاثةُ أيَّامٍ. وبالجملة؛ فمناقب أبي عبد الله البخاريِّ كثيرةٌ، ومحاسنه شهيرةٌ، وفيما ذكرته كفايةٌ ومقنعٌ وبلاغٌ.
(تنبيهٌ وإرشادٌ): رُوِّينا عن الفَِرَبْريِّ أنَّه قال: سمع «صحيحَ البخاريِّ» من مؤلِّفه تسعون ألفَ رجلٍ، فما بقي أحدٌ يرويه عنه غيري.
قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله تعالى: أطلق ذلك بناءً على ما في علمه، وقد تأخَّر بعده بتسع سنين أبو طلحة منصور بن محمَّد بن عليِّ بن قَرِيْنَة -بقافٍ ونونٍ، بوزن كَبِيْرَة- البَزْدويُّ؛ بفتح الموحَّدة وسكون الزَّاي، وكانت وفاته سنة تسعٍ وعشرين وثلاث مئةٍ، وهو آخر من حدَّث عن البخاريِّ بـ «صحيحه»، كما جزم به أبو نصر بن ماكولا وغيره، وقد عاش بعده ممَّن سمع من البخاريِّ القاضي
أنْ يُؤخذ ذلك على ظاهره حتى يُقال القرآن مخلوقٌ، ويتسع فيه المجال والمقال حتى يعتقد أنَّ كلام الله؛ أعني: الصفة القديمة حَادِثَةٌ، فإنَّ القرآنَ كما يُطلق على ما بين الدفتين من الألفاظ المرسومة المقروءة المُركبة من الكلمات والحروف كذلك يُطلق على الصفةِ النفسية، والوقتُ وقتُ فتنٍ واختلاف بدعٍ، فلذا تّحَرَّزَ الأئمةُ من ذلك، حتى حُبِسَ الإمام أحمد وغيرهُ مدةً وضُرِبَ بالسياط ولم يتفوَّه بذلك.
قوله: (وَلَاْ يُكَلَّم) بفتح اللام مبنيًا للمجهول، وذلك لما نقل له عنه كذبًا.
قوله: (أَنْ يَقَعُوْا فِيْه)؛ أي: في نفسه بأن يتكلموا فيه أنَّه