وقال أبو سهلٍ محمود بن النَّضر الفقيه: سمعت أكثر من ثلاثين عالمًا من علماء مصرَ يقولون: حاجتنا في الدُّنيا النَّظر إلى محمَّد بن إسماعيل، وقال أيضًا: كنت أستملي له ببغداد، فبلغ من حضر المجلس عشرين ألفًا؛ وقال إمام الأئمَّة أبو بكرٍ محمَّد بن إسحاق بن خزيمة: ما تحت أديم السَّماء أعلم بالحديث من محمَّد بن إسماعيل البخاريِّ.
وقال عبد الله بن حمَّادٍ الآمليُّ: لوددت أنِّي كنت شعرةً في جسد محمَّد بن إسماعيل.
وقال محمَّد بن عبد الرَّحمن الدَّغوليُّ: كتب أهل بغداد إلى محمَّد بن إسماعيل كتابًا فيه:
المسلمون بخيرٍ ما بقيتَ لهمْ … وليس بعدكَ خيرٌ حين تُفتقَدُ
وقال: وكان رحمه الله تعالى غايةً في الحياء، والشَّجاعة والسَّخاء، والورع والزُّهد في دار الدُّنيا دار الفناء، والرَّغبة في دار البقاء، وكان يختم في رمضان في كلِّ يومٍ ختمةً، ويقوم بعد صلاة التَّراويح كلَّ ثلاث ليالٍ بختمةٍ.
وقال ورَّاقه: كان يصلِّي في وقت السَّحر ثلاث عشْرة ركعةً، وقال أيضًا: دُعِيَ محمَّد بن إسماعيل إلى بستانٍ، فلمَّا صلَّى بهم الظُّهر قام يتطوَّع، فلمَّا فرغ من صلاته رفع ذيل قميصه، وقال لبعض مَنْ معه: انظر، هل ترى تحت قميصي شيئًا؟ فإذا زنبورٌ قد لسعه في ستَّة عشر أو سبعة عشر موضعًا، وقد تورَّم من ذلك جسده، فقال له بعض القوم: كيف لم تخرج من الصَّلاة أوّل ما لسعك؟! قال: كنت في سورةٍ، فأحببت أن أتمَّها، وقال: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أنِّي اغتبت أحدًا، ويشهد لهذا كلامه في التَّجريح والتَّضعيف، فإنَّه أبلغ ما يقول في الرَّجل المتروك أو السَّاقط: فيه نظرٌ، أو سكتوا عنه، ولا يكاد يقول: فلانٌ كذَّابٌ.
وقال ورَّاقه: سمعته يقول: لا يكون لي خصمٌ في الآخرة، فقلت: يا أبا عبد الله، إنَّ بعض النَّاس ينقم عليك «التَّاريخ»، يقول: فيه اغتيابُ النَّاس، فقال: إنَّما رَوَينا ذلك روايةً، ولم نَقُلْهُ من عند أنفسنا. وقد قال ﷺ: «بئس أخو العشيرة».
وقال: ما اغتبت أحدًا منذ علمت أنَّ الغِيبة تضرُّ أهلها، وكان قد ورث من أبيه مالًا كثيرًا، فكان يتصدَّق به.
وكان قليل الأكل جدًّا، كثير الإحسان إلى الطَّلبة، مُفرِطًا في الكرم.
وحُمِلَ إليه بضاعةٌ أنفذها إليه أبو حفصٍ، فاجتمع بعض التُّجَّار إليه بالعشيَّة، وطلبوها منه بربح خمسة آلاف درهمٍ، فقال لهم: انصرفوا اللَّيلة، فجاءه من الغد تجَّار آخرون يطلبونها بربح عشرة آلاف درهمٍ، فردَّهم، وقال: إنِّي نويت البارحة بيعَها للَّذين أتَوا البارحة ولا أحبُّ أن أغيِّر نيَّتي.
وجاءته جاريته فعثرت على محبرةٍ بين يديه، فقال لها: كيف تمشين؟! فقالت: إذا لم تكن طريقٌ فكيف أمشي؟ فقال: اذهبي، فأنت حرَّةٌ لوجه الله تعالى، فقِيلَ له: يا أبا عبد الله، أغضبتك وأعتقتها؟! قال: أرضيتُ نفسي بما فعلتُ.
وقال ورَّاقه: إنَّه كان يبني رباطًا ممَّا يلي بخارى، فاجتمع بشرٌ كثيرٌ يعينونه على ذلك، وكان ينقل اللَّبِن، فكنت أقول له: إنَّك تُكفَى ذلك، فيقول: هذا الذي ينفعني، وكان ذبح لهم بقرةً، فلمَّا أدركت القدور دعا النَّاس إلى الطَّعام، وكان بها مئة نفسٍ أو أكثر، ولم يكن علم أنَّه اجتمع ما اجتمع، وكنَّا أخرجنا خبزًا بثلاثة دراهم أو أقلَّ، فأكل جميع من حضر، وفضلت أرغفةٌ.
ولمَّا قدم نيسابور تلقَّاه أهلها من مرحلتين أو ثلاثٍ، وكان محمَّد بن يحيى الذُّهليُّ في مجلسه، فقال: من أراد أن يستقبل محمَّد بن إسماعيل غدًا فليستقبله فإنِّي أستقبله، فاستقبله الذُّهليُّ وعامَّة علماء نيسابور، فدخلها، فقال الذُّهليُّ لأصحابه: لا تسألوه عن شيءٍ من الكلام، فإنَّه إن أجاب بخلاف ما نحن فيه فقد وقع بيننا وبينه، وشمت بنا كلُّ ناصبيٍّ ورافضيٍّ وجهميٍّ ومرجئيٍّ، فازدحم النَّاس على البخاريِّ حتَّى امتلأت الدَّار والسُّطوح، فلمَّا كان اليوم الثَّاني أو الثَّالث من يوم قدومه قام إليه رجلٌ، فسأله عن اللَّفظ بالقرآن، فقال: أفعالنا مخلوقةٌ، وألفاظنا من أفعالنا، فوقع بين النَّاس اختلافٌ؛ فقال بعضهم: إنَّه قال: لفظي بالقرآن مخلوقٌ، وقال آخرون: لم يقل، فوقع بينهم في ذلك اختلافٌ حتَّى قام بعضهم إلى بعضٍ، فاجتمع أهل الدَّار وأخرجوهم. ذكره مسلم بن الحجَّاج.
وقال ابن عديٍّ: لمَّا ورد نيسابور واجتمع النَّاس عنده حسده بعض شيوخ الوقت، فقال لأصحاب الحديث: إنَّ محمَّد بن إسماعيل يقول: لفظي بالقرآن مخلوقٌ، فلمَّا حضر المجلس قام إليه رجلٌ، فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول في اللَّفظ بالقرآن؟ أمخلوقٌ هو أم غير مخلوقٍ؟ فأعرض عنه البخاريُّ ولم يجبه ثلاثًا، فألحَّ عليه، فقال البخاريُّ: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوقٍ، وأفعال العباد مخلوقةٌ، والامتحان بدعةٌ، فشغب الرجل، وقال: قد قال: لفظي بالقرآن مخلوقٌ. انتهى.
وقد صحَّ أنَّ البخاريَّ تبرَّأ من هذا الإطلاق، فقال: كلُّ من نقل عنِّي أنِّي قلت: لفظي بالقرآن مخلوقٌ، فقد كذب عليَّ، وإنمَّا قلت: أفعال العباد مخلوقةٌ. أخرج
قوله: (البِيْكَنْدِي) بكسر الموحدة وسكون التحتية كما سلف آنفًا.
قوله: (أَدِيْمِ السَّمَاءِ)؛ أي: وجهها.
قوله: (الآمُلِي) تقدم أنَّه بمد الهمزة وتخفيف الميم المضمومة.
قوله: (الدَّغُولِي) بفتح الدال وضم الغين المعجمة آخره لام، نسبةً إلى دغول من قُرى نَيْسَابور، قاله ابن ماكُولا.
قوله: (لَسَعَهُ) في «القاموس»: لَسَعَتْهُ العقرب والحية كمنع، لدغته، أو اللسع لذوات الإبر واللَّدغ بالفم. انتهى فهما قولان خلافًا لما في «دُرَّةِ الغَوَّاص».
قوله: (وَقَدْ قَالَ ﷺ؛ أي: لما استأذن عليه بعض روؤساء الكفار، وعنده السيدة عائشة ﵂ فقال ذلك لها، ثمَّ أَذِن له فدخل فبشَّ في وجهه وأكرمه استئلافًا لقلبه وترغيبًا له، وكان قوله: «بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ» إخبارًا بِحَاله وتنفيرًا من أفعاله.
قوله: (وَشَمِتَ بِنَا) في «القاموس» شَمِتَ كَفَرِحَ ببليةِ العدو وأشمته الله به.
قوله: (كُلُّ نَاصِبِيٍّ) النَّاصِبِيَّة قومٌ يتدينون ببغضِ عليٍّ ﵁، والرافضة فرقةٌ من الشيعة تابعوا زيد بن علي ثم قالوا له: تبرأ من الشيخين فأبى، وقال: كانا وزيري جدي فتركوه ورفضوه وأرفضوا عنه، والنسبة رافضي.
قوله: (وَجَهْمِيٍّ)؛ أي: منسوبٍ إلى جَهْم، وهو جَهْمُ بن صفوان رئيسُهم، فهُم قومٌ يقولونَ: لا قدرةَ للعبدِ لا مُؤَثِّرَة ولا كَاسِبَة بل هو كالجماد، وقالوا: الجنة والنار يفنيان بعد دخول أهلهما ولا يبقى موجودٌ سوى الله، والمُرْجِئة قومٌ يقولونَ: لا يضرُّ مع الإيمان معصية، كما لا ينفعُ مع الكفرِ طاعة.
قوله: (قَالَ لَفْظِي … ) إلى آخره؛ أي: لأنَّه وإن لم يقل ذلك فهو لازمُ كلامه، فإنَّ اللفظ من أفعال العباد.
قوله: (فَشَغَبَ الرَّجُلُ) بالفتح؛ أي: رفعَ صوته ليهيجَ شرًّا، يُقال: شَغَبَ بالمعجمة بهم وعليهم كمنع وفَرِحَ هَيَّجَ الشرَّ عليهم.
قوله: (فَقَدْ كَذَبَ)؛ أي: لأني لم أقل ذلك صراحةً، وهو وإن كان صحيحًا في نفسه لكن خَشِيَ كالقوم