فالمتواتر: الذي يرويه عددٌ تحيل العادة تواطؤهم على الكذب من ابتدائه إلى انتهائه، وينضاف لذلك أن يصحَب خبرهم إفادة العلم لسامعه، كحديث: «مَنْ كذب عليَّ متعمِّدًا … » [خ¦١٠٦]، فنقل النَّوويُّ
في مواضعه، وذكر النَّوويُّ في «التَّقريب» والسُّيوطيُّ في «شرحه» خمسة وستين وقال: ليس ذلك بآخر الممكن في ذلك؛ فإنَّه قابلٌ للتَّنويع إلى ما لا يحصى، إذ لا تُحصى أحوال رواة الحديث وصفاتهم ولا أحوال متون الحديث وصفاتها.
وقال الحازميُّ في «كتاب العجالة»: علمُ الحديث يشتمل على أنواع كثيرة تبلغ مئةً كلُّ نوع منها علم مستقلٌّ، لو أنفق الطَّالب فيه عمره ما أدرك نهايته.
ثُمَّ المراد بالتَّقسيم في قوله: (قَسَّمُوا السُّنَن … ) إلى آخره، التَّنويع إلى الأنواع المذكورة، وإلَّا فأقسام الحديث لا تخرج عن ثلاثة كما قال الأكثرون: صحيح وحسن وضعيف؛ لأنَّها إنْ اشتملت من أوصاف القبول على أعلاها فالصَّحيح، أو على أدناها فالحسن، أو لم تشتمل على شيءٍ منها فالضَّعيف، بل منهم من لم يَزِد نوع الحسن وجعله مندرجًا في الصَّحيح، وحصر الأقسام في اثنين صحيح وضعيف.
قوله: (فَالْمُتَوَاتِر … ) إلى آخره، أقول: الظَّاهر أنَّه إنَّما بدأ به دون الصَّحيح كما فعله الأكثر؛ لأنَّه مقطوع بصحته في نفس الأمر، وأنَّ النَّبيَّ ﷺ قاله إجماعًا كما سيأتي، بخلاف الصَّحيح فإنَّه لا يلزم من كونه صحيحًا باعتبار سنده أن يكون صحيحًا في نفس الأمر كما سيأتي للشَّارح، ولعله ثَنَّى بالمشهور وذكره قبل الصَّحيح؛ لأنَّه قريبٌ منه في ذلك.
والمتواتر في اللُّغة: الشَّيءُ الآتي مرَّة بعد أخرى، من تواتر الرِّجال إذا جاؤوا واحدًا بعد واحد.
وفي الاصطلاح ما ذكره الشَّارح بقوله: الَّذي يرويه … ، أي: الحديث الَّذي يرويه … إلى آخره.
قال بعضهم: ومن حقِّ هذا الخبر أن يُقال له: المتواصل؛ لأنَّ المتواتر من الوِتر، وهو أن يأتي واحد بعد واحد مع نوع انقطاع بينهما، حتَّى قال بعض أهل اللُّغة: من لحن العوام تواترت كتبك، يريدون: تواصلت، بل لا يقال إلَّا عند عدم التَّواصل كذا في حواشي «اللُّقطة الياسينيَّة»، والظَّاهر: أنْ لا وجه لذلك؛ إذ لا مشاحَّة في الاصطلاح ولا يلزم على الرَّاجح وجود مناسبة بين المعنى اللُّغويِّ والاصطلاحيِّ.
قوله: (عَدَد)؛ أي: بلا حصر في قدرٍ مخصوصٍ على ما عليه الجمهور؛ لأنَّ الاعتقاد يتقوَّى عند الإخبار بتدريج خفيٍّ إلى أن يحصل اليقين، والقوَّة البشريَّة قاصرة عن ضبط عدد يحصلُ عنده ذلك وأقلُّه خمسة فلا يكفي أربعة.
قال في «جمع الجوامع» و «شرحه»: ولا يكفي الأربعة وفاقًا للقاضي الباقلاني والشَّافعيَّة؛ لاحتياجهم إلى التَّزكية فيما لو شهدوا بالزِّنا، وما زاد عليها صالح من غير ضبط بعدد معين، وقال الإصطخريُّ: أقلُّه عشرة؛ لأنَّ ما دونها آحاد، وقيل: اثنا عشر، وقيل: عشرون، وقيل: أربعون، وقيل: سبعون. انتهى.
وتوقُّفهم في عدم كفاية الأربعة مطلقًا؛ لاقتضائه عدم صلاحية الأئمَّة الأربعة بل الخلفاء الأربعة، ثمَّ قال: إلَّا أن يراد عدم الكفاية من حيث مجرد الكثرة، فلا ينافي أنَّ نحو الخلفاء الأربعة يكفي باعتبار نحو أحوالهم. انتهى.
ولا شكَّ أنَّ العدد الَّذي يُؤْمن تواطؤه على الكذب يختلف باختلاف الناس.
وقوله: (تُحِيْلُ العَادَةُ) التَّعويل على العادة في ذلك هو ما صَرَّحَ به جمع من المحقِّقين، فالقول بالتَّعويل على العقل وهمٌ أو مؤوَّلٌ، قاله شيخ الإسلام؛ أي: بأنَّ العقل يحكم بالاستحالة بالنَّظر إلى العادة لا بالنَّظر إلى التَّجويز العقليِّ مجرَّدًا عنها، فإنَّه لا يرتفع وإن بلغ العدد ما بلغ لكنَّ ذلك التَّجويز لا يمنعُ حصول العلم العاديِّ.
قوله: (مِن ابْتِدَائِهِ) متعلقٌ بعددٍ؛ أي: كائن ذلك العدد من ابتدائه؛ -أي: الخبر- إلى انتهائه إن تعددت طبقاته، فيُشترط كونُ كلِّ طبقة جمعًا يؤمن تواطؤهم على الكذب؛ ليفيد خبرهم العلم بخلاف ما إذا لم يكونوا كذلك في غير الطَّبقة الأولى فلا يفيد خبرهم العلم، قال المحليُّ: ومن هنا تبيَّن أنَّ المتواتر في الطَّبقة الأولى قد يكون آحادًا فيما بعدها وهذا مجمل القراءة الشَّاذَّة. انتهى.
قوله: (وَيَنْضَافُ لِذَلِكَ … ) إلى آخره، أقول: الظَّاهر أنَّ المراد يَنْتسب لما تقدم من الشُّروط في المتواتر -أعني: كون رواته جمعًا يُؤمَن تواطؤهم على الكذب- ويلابسه أن يصحب خبرهم المذكور إفادته العلم لسامعه، فالمعنى أنَّه متى كان المتواتر كذلك صَحِبه العلم اليقينيُّ بأنَّه مِن كلام مَن أُسند إليه أو بثبوت مدلوله في الواقع، ويدلُّ لذلك عبارة شرح «التَّقريب» وهي: والمتواتر ما نقله مَن يَحْصل العلم بصدقهم ضرورةً بأن يكون جمعًا لا يمكن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم من أوَّله … إلى آخره، ولذا كان مفيدًا للعلم الضَّروريِّ وهو الَّذي يضطَّر إليه الإنسان بحيث لا يمكنه دفعه، ثمَّ قال: ولذا يجب العمل به من غير بحثٍ عن رجاله. انتهى.
أي: عدالة وفسقًا بخلاف غيره فلا يُقبل ويعمل به إلَّا بعد تحقُّق عدالة راويه، قال الأصوليُّون: ولا يشترط فيه؛ -أي: المتواتر- الإسلام، بل يُقبل ولو من كفَّار إذا كان إخبارًا عن محسوس؛