أنَّه جاء عن مئتين من الصَّحابة ﵃.
- أي: أمر يُدرك بالحسِّ كسمع أو بَصر- كالإخبار بوجود مكة أو قتل الملك الفلانيِّ لا عن معقول كإخبار الفلاسفة بقدم العالم أو عدم البعث فلا يُسمى متواترًا ولو أخبر به العدد المذكور. انتهى.
فانظر هل ذلك عامٌّ حتَّى في الأحاديث النَّبويَّة فتُقبل ويُحتجُّ بها برواية الكفَّار تواترًا ظاهرًا؟ إطلاقهم أنَّه كذلك ولو كان السَّند كلُّه كذلك إلى الرَّسول ﷺ، لكن الَّذي يظهر لي خلافه إذ كلام المحدِّثين وأهل الاصطلاح على أنَّه لا يُقبل ويحتجُّ به من الأحاديث إلَّا الحديث الصَّحيح، وهو ما رواه عدل … إلى آخره، حتَّى رَدُّوا رواية المجهول عينًا أو صفة ورواية الدَّاعية لبدعته وإن لم يَكفر بها على الصَّحيح كالرَّوافض كما سيأتي، وقد قال النوويُّ في «التَّقريب»: أجمع الجماهير من أئمَّة الحديث والفقه أنَّه يُشترط فيمن يُحتجُّ بروايته أن يكون عدلًا ضابطًا بأن يكون مسلمًا بالغًا … إلى آخره. انتهى.
ولا يخفى أنَّ مبنى تقسيم الأحاديث إلى صحيح وغيره من الأقسام الكثيرة الآتية إنَّما هو على اعتبار أحوال الرُّواة عدالة وفسقًا، واضطربت أقوالهم في رواية أشخاص كثيرين؛ لاضطرابهم فيهم جرحًا وتعديلًا مع شِدَّةِ تحرِّيهم في الرِّواية والرُّواة، أَفَتَرَاهُم مع ذلك يَقبلون من كافر ولو بلغَ من الكثرة ما بلغ سيَّما وقد قال ﷺ فيما رواه ابن عباس مرفوعًا، كما في المدخل: «لَا تَأْخُذُوْا الْعِلْمَ إِلَّا مِمَّنْ تَقْبَلُوْنَ شَهَادَتَهُ»، وحديث الشَّمائل: «انْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُوْنَ دِيْنَكُم»، وقد قال الله تعالى: ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [المجادلة: ١٤]، فأخبر تعالى أنَّهم يكذبون ويروِّجون كذبهم بالحلف مع ما ينضمُّ لذلك من عداوتهم للدِّين وأهله الموجبة لعدم أَمْنِ تَواطُئِهِم على الكذب بما ينابذه أو ينافيه وتقييد حصر القبول فيما رواه عَدْل بالآحاد لا التَّواتر بعيد جدًا، بل الظَّاهر أنَّ التَّعميم بما ذكر في المتواتر اصطلاح للأصوليِّين، وأنَّ اصطلاح المحدِّثين فيه غير ذلك بل هو: ما يرويه عددٌ يؤمن تواطؤهم على الكذب من المسلمين، فيُقبل من غير بحث عن رجاله حينئذ عدالة وفسقًا، على أنَّه لم يوجد حديث نبويٌّ تواتر بكفَّارٍ قطُّ حتَّى يكون للمحدِّثين نظرٌ إليه، وربما يُؤيِّد ما قُلناه أنَّ صاحب «جمع الجوامع» قال بعد أن ذكر في المتواتر ما سبق من قبوله من الكفَّار ما نصُّه: ولا تقبل رواية كافر، قال شارحه المحلِّي: وإن عُرِفَ بالصِّدق لعلوِّ منصب الرِّواية عن الكفَّار. انتهى. فهذا التَّعليل يأبى إلَّا التَّعميم في الآحاد وغيرها، وحينئذ فيكون اصطلاح المحدِّثين في المتواتر غير اصطلاح الأصوليِّين إذ كلامهم في الحديث المتواتر، وكلام الأصوليِّين في الخبر المتواتر من النَّاس غير السُّنَّة الشَّريفة، فتصطلح الاصطلاحات على أنَّ عبارة «جمع الجوامع» نصُّها الأصحُّ أنَّه لا يشترط فيه الإسلام. انتهى.
وهي تفيد أنَّ في ذلك خلافًا وأنَّ القول باشتراط الإسلام في ذلك الخبر الأعمِّ قول صحيح لا ضعيف؛ فليتأمَّل وليحرَّر.
ثمَّ رأيت بعد ذلك ما يؤيد ذلك في «شرح التقريب» للسُّيوطيِّ ونصُّه: ومنه أي من المشهور المتواتر المعروف في الفقه وأصوله، ولا يذكره المحدِّثون باسمه الخاصِّ المُشعر بمعناه الخاصِّ، وإن وقع في كلام الخطيب ففي كلامه ما يُشعر بأنَّه اتَّبع فيه غير أهل الحديث، قاله ابن الصلاح. انتهى.
بل ذلك نصٌّ في أنَّ أهل الحديث ليس لهم نظرٌ إليه بالذَّات وأنَّ الكلام فيه خاصٌّ بأهل الفقه والأصول.
هذا وقد اختُلِف في العلم الحاصل بالتَّواتر، فالجمهور أنَّه ضروريٌّ، وليس مرادهم أنَّه يعلم بغير دليل بل المعنى كما في «ياسين على لقطة العجلان» أنَّه يلزم التَّصديق به ضرورة إذا وُجدت شروطه، كما يلزم التَّصديق بالنَّتيجة الحاصلة عن المقدِّمات ضرورة وإن لم تكن في نفسها ضروريَّة، وقال الكعبيُّ والإمامان (١): نظريٌّ؛ أي: يتوقَّف على مقدِّمات حاصلة لا بمعنى أنَّه يحتاج إلى النَّظر عقبه، وقيل: بالوقف، وهذا بالنَّظر إلى العلم بتلك الألفاظ وكونها من كلام من أسند إليه، وكذا العلم بثبوت مدلوله في الواقع، فالجمهور: أنَّه ضروريٌّ كذلك، وقيل نظريٌّ وأطال في ردِّه في «شرح النُّخبة» وعلى كلٍّ فهو يفيد العلم بخلاف الآحاد فإنَّه يفيد الظَّنَّ.
قوله: (أَنَّه جَاءَ عَنْ مَئتَيْن مِنَ الصَّحَابَةِ)؛ أي: وبحسب العادة إذا ورد الحديث عن مثل هذا العدد من الصَّحابة ينقله عنهم كثيرون وهكذا إلى انتهائه، إذ لا يخفى أنَّه إذا جاء من الطَّبقة الأولى الَّتي يتوهَّم فيها التَّفرُّد عن هذا العدد برمَّته فلأن يجيء عن مثله أو أكثر فيما عداها من الطَّبقات من باب أولى، فلا يُقال مقتضاه أنَّ كثرة العدد إنَّما هي في الطَّبقة الأولى خاصَّةً فيُنافي ما أسلَفه من اشتراط ذلك العدد من ابتدائه إلى انتهائه، ثمَّ كون هذا الحديث جاء عن مئتين من الصَّحابة، قال العراقيُّ: ليس في هذا المتن بعينه
(١) تعليق موسوعة البخاري: الإمامان هما إمام الحرمين، والإمام الرَّازيُّ، انظر حاشية العطَّار على جمع الجوامع.