إلَّا مبيَّنًا، والعملُ به مُطلقًا، وسببه: نسيانٌ أو افتراءٌ أو نحوهما،
السِّجِسْتَاني- فإنَّهم جوزوه في الترغيب والترهيب دون ما يتعلق به حكم من الثواب والعقاب، ترغيبًا للناس في الطاعة، وترهيبًا لهم عن المعصية، واستدلوا بما رُوي في بعض طرق الحديث: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا لِيُضِلَّ بِهِ النَّاسَ» وهي زيادةٌ اتفقَ الحفاظُ على بُطلانها، وبفرض صحتها فهي للتأكيد كقوله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ﴾ الآية [الأنعام: ١٤٤]، أو أنَّ اللام للعاقبة وحملَ بعضهم حديث «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ»؛ أي: قال: إنَّه شاعر أو مجنون، وقال بعضهم: إنَّما نكذب له لا عليه، وقال بعض أهل الرأي فيما حكاه القرطبي: ما وافق القياس الجليَّ جازَ أن يُعزى إليه ﷺ.
قوله: (مُطْلَقًا)؛ أي: بيْنَ وضعهِ أولًا في الأحكام والعقائد أو غيرهما من الترغيب والترهيب والقصص والمواعظ ونحو ذلك، بخلاف الضعيف فيُعمل به فيما عدا الأحكام والعقائد على ما سبقَ من الخلاف فيه مفصلًا.
قوله: (وَسَبَبَهُ)؛ أي: سببُ وضعِ الموضوعِ.
وقوله: (نِسْيَانٌ) انظر ما معنى النسيان هنا، ويمكن أن يُصَوَّرَ بأن يروي حديثًا نَبَّهَهُ شيخهُ على وَضْعِهِ فينسى ذلك التنبيه ويرويه، لكن أنت خبيرٌ بأنَّ هذا ليس وضعًا لا حقيقة ولا حُكمًا، نعم كان يظهر ذلك لو قيل: وسبب روايته كذا، وإذا قلنا المرادُ ذلك لم يتجه ذلك في المعطوف أعني قوله: (أو افتراء) ويُمكن أن يكون مُراده بالنسيان الغلط فالمراد أنَّه بغير قصدٍ، وعبارة «التقريب» وشرحه: ورُبَّما وقعَ الراوي في شبه الوضع غلطًا منه بغير قصدٍ فليس بموضوع حقيقة، بل هو بقسم المدرج أولى، كما ذكره شيخ الإسلام في «شرح النخبة» قال: بأن يسوقَ الإسنادَ فيعرضُ له عارض فيقول كلامًا من عند نفسه فيظن بعض مَن سمعه أنَّ ذلك متن هذا الإسناد فيرويه عنه كذلك، كحديث رواه ابن ماجه، عن إسماعيل بن محمد، عن ثابت بن موسى الزاهد، عن شَريك، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر مرفوعًا: «مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ»، قال الحاكم: دخلَ ثابت على شريكٍ وهو يُملي ويقول: حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ، وسكت ليَكتب المُستملي، فلما نظرَ إلى ثابت قال: «مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ … » إلى آخره، وقصد بذلك ثابتًا لزهده وورعه، فظنَّ ثابتٌ أنَّه متن ذلك الإسناد وكان يحدث به. انتهى.
قوله: (أَو افْتِرَاءٌ)؛ أي: اختلاقٌ، وأنت خبيرٌ بأنَّ الافتراء هو الكذب ولا معنى لكون سبب الوضع؛ -أي: الكذب- الكذب، ولا نحو لنحوه الداخل تحت قوله: (ونحوهما)، ويمكن أن يكون كناية عن عدم وجودِ سبب له أصلًا، وهو بعيدٌ لا معنى له؛ إذ لا بدَّ لفعل ذلك من داعٍ إلَّا أن تنزل دواعيه منزلة العدمِ.
من أسبابه: إفساد الدِّين كما فعلت الزنادقة إذ وضعوا أربعة عشرة ألف حديث كما رواه العُقيلي، منهم عبد الكريم بن أبي العرجا الذي قُتل وصُلب في زمن المهدي، قال ابن عَدي: لمَّا أُخِذَ ليُضرب عنقه قال: وضعتُ فيكم أربعة آلاف حديث أُحرم فيها الحلال وأحللُ الحرامَ، ومحمد بن سعيد الشَّامي روى عن حُميد، عن أنس مرفوعًا: «أَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، إِلا أن يشاء الله»، وضعَ هذا الاستثناء لما كان يدعو إليه من الإلحاد والزندقة والدعوة إلى التَّنَبِي.
ومنها: التعصب والانتصار للمذهب كالخطَّابية والرافضة؛ كما روي أنَّ رجلًا من أهل البدع رجعَ عن بدعته فجعلَ يقول: انظروا هذا الحديث عمن تأخذونه؛ فإنَّا كنا إذا رأينا رأيًا جعلنا له حديثًا.
ومنها: اتباعُ هوى الرؤساء والأمراء تقرُّبًا إليهم بوضعِ ما يوافقُ فعلهم؛ كما فعل غياث بن إبراهيم حيث دخل على المهدي فوجده يلعب بالحَمَام فساقَ في الحال إسنادًا إلى النَّبيِّ ﷺ وقال: «لَا سَبَقَ إلَّا في نَصْلٍ أو خُفٍّ أو حَافِرٍ أو جناحٍ»، فأمرَ لهُ المهدي بعشرة آلاف درهم، فلما خرج قال: أشهدُ أن قفاكَ قفا كذاب على رسول الله ﷺ، ما قال رسول الله ﷺ: «أو جناح»، وأمر بذبح الحمام وترك ما كان عليه، وقال: أنا الذي حَمَلته على ذلك.
ومنها: قصدُ الأجر والثواب في زعمِ الواضعِ؛ كما فعلهُ قوم يُنسبون إلى الزهد والصلاح جهلًا منهم بما يجوز لهم وما يمتنع، كما قيل: أن أبا داود النَّخعي كان أطول الناس قيامًا بليل وأكثرهم صيامًا بنهار وكان يضع، وأنَّ وَهب بن حفص مكثَ عشرين سنة لا يُكلم أحدًا لاشتغاله بالعبادة وكان يكذب كذبًا فاحشًا، ولكن هؤلاء وإن خَفِيَ حَالُهُم على كثيرٍ فلم يخفَ على جهابذةِ الحديث ونُقَّادِهِ، قيل لابن المبارك في هذه الأحاديث المصنوعة فقال: تعيش لها الجهابذة، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩].
ومن هؤلاء من وضعَ أحاديثَ فضل السُّور سورةً سورة، قيل لأبي عاصم نوح بن أبي مريم: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس