للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الصِّحَّة في كتاب «مسلم» أتمُّ منها في كتاب «البخاريِّ» وأشدُّ، وشرطه فيها أقوى وأسدُّ. أمَّا رجحانه من حيث الاتِّصال؛ فلاشتراطه أنْ يكون الرَّاوي قد ثبت له لقاء مَنْ روى عنه ولو مرَّةً، واكتفى مسلمٌ بمطلق المعاصرة، وألزم البخاريَّ بأنَّه يحتاج ألَّا يقبل المُعنعن أصلًا، وما ألزمه به فليس بلازمٍ؛ لأنَّ الراوي إذا ثبت له اللِّقاء مرَّةً لا يجري في روايته احتمال ألَّا يكون سمع؛ لأنَّه يلزم من جريانه أن يكون مدلِّسًا، والمسألة مفروضةٌ في غير المدلِّس، وأمَّا رجحانه من حيث العدالة والضَّبط فلأنَّ الرِّجال الذين تُكلِّم فيهم من رجال مسلمٍ أكثر عددًا من الذين تُكلِّم فيهم من رجال البخاريِّ، مع أنَّ البخاريَّ لم يكثر من إخراج حديثهم، بل غالبهم من شيوخه الذين أخذ عنهم ومارس حديثهم، وميَّز جيِّدها من موهومها، بخلاف مسلمٍ، فإنَّ أكثر من تفرَّد بتخريج حديثه ممَّن تكلِّم فيه ممَّن تقدَّم عصره من التَّابعين ومن بعدهم، ولا ريب أنَّ المحدِّث أعرف بحديث شيوخه ممَّن تقدَّم عنهم. وأمَّا رجحانه من حيث عدم الشُّذوذ والإعلال فلأنَّ ما انتُقِد على البخاريِّ من الأحاديث أقلُّ عددًا ممَّا انتُقِد على مسلمٍ.

وأمَّا الجواب عمَّا انتُقِد عليه؛ فاعلم أنَّه لا يقدح في الشَّيخين كونهما أخرجا لمن طُعِنَ فيه؛ لأنَّ تخريج صاحب الصَّحيح لأيِّ راوٍ كان مقتضٍ لعدالته عنده، وصحَّة ضبطه وعدم غفلته، لا سيَّما

استنباطه الأحكام منها، وأورد كثيرًا منها في غير مظنته، قال شيخ الإسلام: إذا امتاز مسلم بهذا فللبخاري في مقابلته من الفضل ما ضمنه في أبوابه من التراجم التي حَيَّرَت الأفكار، وأنَّه ما قرئ في شدَّة إلَّا فُرجت ولا رُكب به في مركبٍ فغرق، ولله در من قال:

قالُوْا لِمُسْلِمٍ فَضْلُ … قُلْتُ البُخَارِيُّ أَعَلى

قَالوا المُكرَّرُ فيهِ … قلتُ المُكرَّرُ أَحْلَى

وقيل: إنهما سواءٌ، وقيل: بالوقفِ.

قوله: (فِيْ كِتَابِ مُسْلِم أَتَمُّ مِنْهَا … ) إلى آخره، كذا في النُّسخ، وعليها فـ (أتمُّ) مبتدأ (أن)، وفي كتاب البخاري خبر المبتدأ الثاني، وهو وخبره خبر عن قوله (فَالصِّفَاتُ) ولا يخفاكَ ما فيه من نوع التكلف.

ولو عكسَ بأن قال في كتاب البخاري أتمُّ مِنْهَا في كتاب مسلم كان أظهر.

قال في «مقدمة الفتح»: وبيانُ ذلكَ من وجوهِ: أحدها: أنَّ الذين انفردَ البخاري بالإخراج لهم دون مسلم أربعمئة وبضع وثلاثون رجلًا إلى آخر ما ذكره الشارح في الرُّجحان من حيث العدالة والضبط.

قوله: (وَشَرْطُهُ فِيْهَا أَقْوَى … ) إلى آخره؛ أي: لما سبق عن الحازمي من أنَّه لا يخرج إلَّا عن الضابط المتقن الملازم لمن أخذَ عنه الملازمة الطويلة الممارس لحديثه.

وقوله: (وَأَسَدُّ) أفعل تفضيل من السداد بالفتح، وهو الصواب من القول والفعل، قال في «المصباح»: أسدَّ الرجل بالألف جاء بالسداد، وسَدَّ يَسد -من باب ضرب- سدودًا، أصاب في قوله وفعله، فهو سديد. انتهى.

قوله: (فَلِاشْتِرَاطِهِ)؛ أي: في الحديثِ المُعنعن، فلا يحكمُ للمُعَنْعَن بالاتصال إلَّا إذا ثبتَ اجتماع المُعَنْعِن والمُعَنْعَن عنه ولو مرةً، وهو وإنْ لم يصرحْ بذلكَ الشرط في الصحيح إلَّا أنَّه التزمه فيه وأظهره في «تاريخه» كما قاله ابن حجر، قال: وهذا ما يرجَّحُ به كتابه؛ لأنَّا وإن سلمنا ما ذكره مسلم من الحكم بالاتصال؛ -أي: بمجرد المعاصرة- فلا يخفى أنَّ شرط البخاري أوضح في الاتصال. انتهى.

قوله: (بِمُطْلَقِ المُعَاصَرَةِ)؛ أي: فيُحكم للإسناد المُعنعن بالاتصال إذا تعاصرا وإن لم يثبت اجتماعهما إلَّا إن كانَ المعنعن مدلسًا.

قوله: (أَنْ لَاْ يَقْبَلَ المُعَنْعِنَ أَصْلًا)؛ أي: لأَنَّهُ في كلِّ حالٍ محتمل لأن لا يكونَ سمع منه فيكون مدلِّسًا؛ أي: مع أنَّه قَبِلَه وذَكَرَه في صحيحه.

قوله: (لَأَنَّهُ لَاْ يَلْزَمُ مِنْ جَرَيَانِهِ)؛ أي: جريانِ احتمالِ عدم السماع.

وقوله: (أَنْ يَكُوْنَ) اسمُ يكون عائدٌ على الراوي و (مُدَلِّسًا) بالنصبِ خبرها؛ أي: أن يكون هذا الراوي مُدلسًا لهذا الحديث بأن يكونَ أسقطَ من سنده مَن سمع هو منه، وهذا خلافُ فرض المسألة إذ هي مفروضةٌ في غير المدلس، وإذا كان كذلك وهو عدلٌ محققُ اللقاءِ له ولم يعهدْ عليه التدليس لم يبقَ لاحتماله وجه.

قوله: (أَكْثَرُ عَدَدًا … ) إلى آخره، وذلك أنَّ الذي انفردَ البخاري بالإخراجِ لهم دون مسلم أربعمئة وبضع وثمانون رجلًا، المُتَكَلَّمُ فيه بالضعفِ منهم ثمانون رجلًا، والذي انفرد مسلم بالإخراج لهم دون البخاري ستمئة وعشرون رجلًا، المُتكلمُ فيه بالضعف منهم مئة وستون رجلًا، ولا شكَّ أنَّ التخريج عَمَّنْ لم يتكلمْ فيه أصلًا أولى من التخريج عمَّن تُكُلم فيه، وإن لم يكن الكلام قادحًا.

قوله: (بَلْ غَالِبُهُم … ) إلى آخره، لو أضربَ عن هذا الإضراب وقال: (وغالبهم … ) إلى آخره، لكانَ أظهرَ، كما فعل في «مقدمة الفتح» و «شرح التقريب».

والمعنى أنَّه مع كونه لم يكثرْ من تخريج أحاديث من تُكُلِّمَ فيه، فأكثرُ مَن خرَّج عنه منهم شيوخه الذين لقيهم وجالسهم وعرف أحوالهم فكان أدرى بهم من غيره، بخلاف مسلم فإنَّ أكثرَ مَن تفرَّدَ بالتخريج عنه ممَّن تُكُلِّم فيه ليس ممَّن اجتمع به، بل ممَّن تقدم عصره.

قوله: (مِنَ الأَحَادِيْثِ)؛ أي: التي خرَّجها، وفيها شذوذ وإعلال.

وقوله: (أَقَلُّ عَدَدًا … ) إلى آخره، وذلك أنَّ ما أخرجه الشيخان من ذلك نحو مئتي حديث وعشرة أحاديث، اختصَّ البخاريُّ منها بأقلَّ من ثمانين، ولا شكَّ أنَّ ما قلَّ الانتقاد فيه أرجحُ مما كَثُرَ.

قوله: (عَمَّا انْتُقِدَ عَلَيْهِ)؛ أي: عن الأحاديث التي انتقدها عليه نقادُ الحفاظِ كالدَّارَقُطْنِي وغيره، قال النووي في مقدمة «شرح مسلم»:

فصل: قد استدركَ جماعةٌ على البخاري ومسلم أحاديث أَخَلَّا فيها بشرطهما، ونزلت عن درجة ما التزماه، وقد أَلَّفَ الدَّارَقُطْنِي في ذلك وأبو مسعود الدمشقي وأبو علي الغَسَّاني، وقد أجيبُ عن ذلك أو أكثره. انتهى.

وقال في «مقدمة الفتح»: قد استدركَ الدَّارَقُطْنِي على البخاري أحاديثَ طعنَ في بعضها، وذلك الطعن مبني على قواعدَ لبعض المحدثين ضعيفة جدًا، مخالفةٍ لما عليه جمهور أهل الفقه والأصول وغيرهم فلا يغترُّ بذلك. وقوله فِيْ «شَرْحِ مُسْلِمٍ»: وقد أجيبَ عن ذلك أو أكثره. هو الصواب، فإنَّ منها ما الجواب فيه غير منتهض، ولو لم يكن في ذلك إلَّا الأحاديث

<<  <   >  >>