للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد انضاف إلى ذلك إطلاق الأمَّة على تسميتهما بالصَّحيحين، وهذا إذا خرَّج له في الأصول، فإن خرَّج له في المتابعات والشَّواهد والتَّعاليق فتتفاوت درجات من أخرج له في الضَّبط وغيره، مع حصول اسم الصِّدق لهم، فإذا وجدنا مطعونًا فيه فذلك الطَّعن مقابلٌ لتعديل هذا الإمام، فلا يُقبَل التَّجريح إلَّا مفسَّرًا بقادحٍ يقدح فيه، أو في ضبطه مُطلَقًا، أو في ضبطه لخبرٍ بعينه؛ لأنَّ الأسباب الحاملة للأئمَّة على الجرح متفاوتةٌ، منها ما يقدح ومنها ما لا يقدح.

وقد كان أبو الحسن المقدسيُّ يقول في الرَّجل الذي يُخرَّجُ عنه في «الصَّحيح»: هذا جاز القنطرة؛ يعني: أنَّه لا يُلتَفت إلى ما قِيلَ فيه. وأمَّا الأحاديث التي انتُقِدت عليهما فأكثرها لا يقدح في أصل موضوع الصَّحيح، فإنَّ جميعها واردةٌ من جهةٍ أخرى، وقد عُلِمَ أنَّ الإجماع واقعٌ على تلقِّي كتابيهما بالقبول والتَّسليم، إلَّا ما انتُقِد عليهما فيه. والجواب عن ذلك على سبيل الإجمال.

أنَّه لا ريب في تقديم الشَّيخين على أئمَّة عصرهما ومن بعده في معرفة الصَّحيح والمُعلَّل، وقد روى الفَِرَبْريُّ عن البخاريِّ أنَّه قال: ما أدخلت في الصَّحيح حديثًا إلَّا بعد أن استخرتُ الله تعالى وتثبَّتُّ صحَّته، وقال مكِّيُّ بن عبدان: كان مسلمٌ يقول: عرضتُ كتابي على أبي زُرعة، فكلُّ ما أشار إليَّ أنَّ له علَّةً تركته.

فإذا عُلِمَ هذا، وتقرَّرَ أنَّهما لا يخرِّجان من الحديث إلَّا ما لا علَّة له، أو له علَّةٌ إلَّا أنَّها غير مؤثِّرةٍ، وعلى تقدير توجيه كلام من انتقد عليهما، يكون كلامه معارضًا لتصحيحهما، ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما، فيندفع الاعتراض من حيث الجملة.

وأمَّا من حيث التَّفصيل؛ فالأحاديث التي انتُقِدت عليهما تنقسم إلى ستَّة أقسامٍ:

أوَّلها: ما تختلف الرُّواة فيه بالزِّيادة والنَّقص من رجال الإسناد، فإن أخرج صاحب الحديث الصَّحيح الطَّريق المزيدة، وعلَّله النَّاقد

المُعلَّقَةُ التي لم تتصل من وجهٍ آخر، لا سيما إن كان في بعض رجالها المذكورين مَن فيه مقالٌ، إلَّا أنَّ الجواب عن ذلك سهلٌ؛ لأنَّ موضوع الكتابين إنَّما هو المُسندات، والمُعلق ليس بمسندٍ، وإنَّما يُذكر استئناسًا واستشهادًا، وحينئذ فيبقى الكلام فيما عُلِّلَ من الأحاديث المسندة، وعِدَّةُ ما اجتمع من ذلك في البخاري وإن شاركه مسلم في بعضه مئة (١) وعشرة أحاديث، وسيأتي الجواب عنها، وافقه مسلم في اثنين وثلاثين منها.

قوله: (إِطْلَاقُ الأُمَّةِ) كذا في نُسختنا، فإن لم تكن محرَّفة عن (إطباق)، أو مضمنة معناها، وإلَّا فـ (على) مِنْ قَوْلِهِ: (عَلَى تَسْمِيَتِهَا) زائدةٌ.

قوله: (وَهَذَا … ) إلى آخره؛ أي: كونُ تخريجهِ لأيِّ راوٍ مُقْتَضٍ لعدالتهِ عندهُ.

قوله: (مَنْ أَخْرَجَ لَهُ)؛ أي: من الرواةِ، فقد تقدَّمَ أنَّه يدخلُ في المتابعاتِ والشواهد الضعفاء؛ لأنَّها ليست من موضوع الكتاب، وإنَّما لا يكون ضعفهم شديدًا، وهو معنى قوله (مَعَ حُصُوْلِ اسْمِ الصِّدْقِ لَهُم).

قوله: (مَطْعُوْنًا فِيْهِ)؛ أي: ممنْ خرَّجَ له في الأصول.

وقوله: (مُقَابِلٌ لِتَعْدِيْلِ هَذَا الإِمَامِ)؛ أي: اللازمُ لتخريجهِ لهُ، والتعديلُ مقدَّمٌ على الجرح المبهم الغير المفسر، ومحل قولهم: (الجرح مقدَّم على التعديل) إن كان مُفسرًا بما ذكره الشارح، فيكون تخريجُ مثل المصنفِ له إيذانًا بعدم الالتفات إلى جَرْحِهِ هذا، وأنه ثقةٌ مقبولٌ.

قوله: (يَقْدَحُ فِيْهِ)؛ أي: في عَدَالَتِهِ مثلًا.

قوله: (مُطْلَقًا)؛ أي: في جميع رواياته.

قوله: (وَمِنْهَا مَا لَاْ يَقْدَحُ)؛ أي: فيُظنُّ قادحًا وليس كذلك كما تقدمَ تفصيله، فلذا كان الجرح غير مقبولٍ إلَّا مفسرًا.

قوله: (وَأَمَّا الأَحَادِيْثُ … ) إلى آخره، هذه عبارةٌ غير ظاهرةٍ من وجوه:

الأول: أن مُرَادَهُ (وَأَمَّا الجَوَابُ عَنْ الأَحَادِيْثِ … ) إلى آخره، كما هو الظاهرُ فيتكرر مع سابقه.

والثاني: أن قَوْلَهُ (فَإِنَّ جَمِيْعَهَا … ) إلى آخره، الظاهرُ أنَّه تعليلٌ لقوله: (فَأَكْثَرُهَا لَاْ يَقْدَحُ … ) إلى آخره، الذي جعلهُ جوابَ الشرطِ فيكونُ هو الجواب عن الانتقاد له، وهو مع ما فيه ممَّا يتضح لك من عبارة «الفتح» غير مُلائمٍ له إذ المعلَّل الأكثر، وعلى ظاهر عبارته فلا يجري إلَّا لو كان النقدُ من حيث عدمُ الورودِ من جهة أخرى في الجميع، وما ذلك إلَّا في البعض فضلًا عن الأكثر.

والثالث: قوله: (إِلَّا مَا انْتُقِدَ عَلَيْهِمَا فِيْهِ) فإنَّ الظاهر من عبارته أنَّ قوله قبل (وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الإِجْمَاعَ … ) إلى آخره، تتمةٌ للجوابِ عمَّا انتقد فما معنى استثناء (ما انتُقِدَ) في الجواب عما انتُقِدَ.

والرابع: أنَّ قوله بعد: (وَالجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ لَا مَعْنَى لَهُ) بعد قوله: (وَأَمَّا الأَحَادِيْثُ … ) إلى آخره، على ما سمعتَ من أنَّ المراد (وَأَمَّا الجَوَابُ عَنْ الأَحَادِيْثِ … ) إلى آخره، وعبارةُ «الفتح» سليمةٌ من ذلك كلِّهِ، ونَصُّهَا.

الفصل الثامن: في سياقِ الأحاديثِ التي انتقدها عليه حافظُ عصره أبو الحسن الدَّارَقُطني وغيره من النقاد، وسياقُ ما حضر من الجواب عنه، وقبل الخوض فيه ينبغي لكل منصف أن يعلم أنَّ هذه الأحاديث وإن كان أكثرها لا يَقدح في أصل موضوع الكتاب، فإنَّ جميعها واردٌ من جهة أخرى وهي ما ادعاه الإمام أبو عمرو بن الصلاح وغيره من الإجماع على تلقي هذا الكتاب بالقبول والتسليم لصحة جميع ما فيه، فإنَّ هذه المواضع متنازعٌ في صحتها فلم يحصل لها مِن التلقي ما حصل لمُعظم الكتاب. انتهى.

فها أنت ترى العبارة في منزعٍ آخر، وهو أنَّ الجواب عن هذه الأحاديث وإن كان مُسَلَّمًا من حيثيةٍ فهو غير مُسَلَّمٍ من أخرى، وترى قوله فيها: (فَإِنَّ جَمِيْعَهَا … ) إلى آخره، عِلَّةً لقوله: (وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهَا) وجوابُ الشَّرط قوله: (فَإِنَّ هَذِهِ المَوَاضِعَ … ) إلى آخره، فتأملْ.

قوله: (الفرَبْرِيُّ) بفاء مكسورة أو مفتوحة على ما في «القاري على الشفاء»، فراء مفتوحة فموحدة ساكنة فراء مكسورة، تلميذُ المُصَنِّفِ.

قوله: (إِلَّا أَنَّهَا غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ)؛ أي: عندهما، وقد كان الذُّهْلِي يقولُ: أعلم أهل عصره بعلل الحديث الزهري (٢)، وقد استفادَ منه ذلك الشيخان جميعًا.

قوله: (وَعَلَى تَقْدِيْرِ … ) إلى آخره، عبارة «الفتح»: فإذا عُرِف وتقرر أنَّهما لا يُخرجان من الحديث إلَّا ما لا علةَ له، أو له علة إلَّا أنها غيرُ مؤثرةٍ عندهما، فبتقدير توجيه كلام (مَنْ انْتَقَدَ عَلَيْهِمَا يَكُوْنُ مُعَارَضًا … ) إلى آخره.

قوله: (مَا تَخْتَلِفُ فِيْهِ الرِّوَايَةُ) عبارةُ «مقدمة الفتح»: (الرواة) بدون ياء، وهي أظهرُ.

قوله: (صَاحِبُ الحَدِيْثِ الصَّحِيْحِ) الذي في المقدمة المذكورة: (صاحب الصحيح) بحذف لفظ (الحديث) وهو أولى، والمرادُ بصاحب الصحيح أحدُ الشيخين لدلالةِ السِّيَاقِ.

قوله: (وَعَلَّلَهُ النَّاقِض … ) إلى آخره؛


(تعليق موسوعة البخاري)
(١) هكذا هنا، وفي مقدمة الفتح: «مئتين».
(٢) هكذا ساق العبارة، وصوابها: وقد كان الذهلي أعل أهل عصره بعلل حديث الزهري. انتهى.

<<  <   >  >>