بالطَّريق النَّاقصة؛ فهو تعليلٌ مردودٌ؛ لأنَّ الرَّاوي إن كان سمعه من الطريق النَّاقصة؛ فهو منقطعٌ، والمنقطع من قسم الضَّعيف، والضَّعيف لا يُعِلُّ الصَّحيحَ، وإن أخرج صاحب الصَّحيح الطَّريق النَّاقصة، وعلَّله النَّاقد بالطَّريق المزيدة؛ تضمَّن اعتراضه دعوى انقطاعٍ فيما صحَّحه المصنِّف، فينظر إن كان مدلِّسًا من طريقٍ أخرى، فإن وجد ذلك اندفع الاعتراض به، وإن لم يوجد وكان الانقطاع فيه ظاهرًا؛ فمُحصَّل الجواب عن صاحب الصَّحيح أنَّه إنَّما أخرج مثل ذلك في باب ما له متابعٌ وعاضدٌ، وما حفَّته قرينةٌ في الجملة تقوِّيه، ويكون التَّصحيح وقع من حيث المجموع، وفي «البخاريِّ» و «مسلمٍ» من ذلك حديث الأعمش عن مجاهدٍ عن طاوسٍ عن ابن عبَّاسٍ في قصَّة القبرين: «وأنَّ أحدهما كان لا يستبرئ من بوله»، قال الدَّارقطنيُّ: خالف منصورٌ، فقال: عن مجاهدٍ عن ابن عبَّاسٍ، وأخرج البخاريُّ حديث منصورٍ على إسقاطه «طاوسًا». انتهى. وهذا الحديث أخرجه البخاريُّ في «الطَّهارة» [خ¦٢١٨] عن عثمان ابن أبي شيبة عن جريرٍ، وفي «الأدب» [خ¦٦٠٥٢] عن محمَّد بن سلَامٍ عن عَبِيْدة بن حميدٍ، كلاهما عن منصورٍ به، ورواه من طرقٍ أخرى من حديث الأعمش، وأخرجه باقي الأئمَّة السِّتَّة من حديث الأعمش أيضًا، وأخرجه أبو داود أيضًا والنَّسائيُّ وابن ماجه وابن خزيمة في «صحيحه» من حديث منصورٍ أيضًا، وقال التِّرمذيُّ بعد أن أخرجه: رواه منصورٌ عن مجاهدٍ عن ابن عبَّاسٍ، وحديث الأعمش أصحُّ؛ يعني: المتضمِّن للزِّيادة، قال الحافظ ابن حجرٍ: وهذا في التَّحقيق ليس بعلَّةٍ؛ لأنَّ مجاهدًا لم يُوصَف بالتَّدليس، وسماعه من ابن عبَّاسٍ صحيحٌ في جملة الأحاديث، ومنصورٌ عندهم أتقنُ من الأعمش، مع أنَّ الأعمش أيضًا من الحفَّاظ، فالحديث كيفما دار دارَ على ثقةٍ، والإسناد كيفما دار كان متَّصلًا، فمثل هذا لا يقدح في صحَّة الحديث إذا لم يكن راويه مدلِّسًا، وقد أكثر الشَّيخان من تخريج مثل هذا، ولم يستوعب الدَّارقطنيُّ انتقاده.
ثانيها: ما تختلف الرُّواة فيه بتغيير بعض الإسناد، فإن أمكن الجمع بأن يكون الحديث عند ذلك الرَّاوي على الوجهين جميعًا، فأخرجهما المصنِّف ولم يقتصر على أحدهما، حيث يكون المختلفون متعادلين في الحفظ والعدد، كما في «البخاريِّ» في «بدء الخلق» من حديث إسرائيل عن الأعمش ومنصورٍ جميعًا عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، قال: «كنَّا مع النَّبيِّ ﷺ في غارٍ فنزلت ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ﴾» [خ¦٣٣١٧]، قال الدَّارقطنيُّ: لم يتابع إسرائيل عن الأعمش عن علقمة، أمَّا عن منصورٍ فتابعه شيبان عنه، وكذا رواه مغيرة عن إبراهيم عنه. انتهى. وقد حكى البخاريُّ الخلاف فيه، وهو تعليلٌ لا يضرُّ، وإن امتنع الجمع بأن يكون المختلفون غير متعادلين، بل متفاوتين في الحفظ والعدد، فيخرِّج المصنِّف الطَّريق الرَّاجحة، ويُعرِض عن الطَّريق المرجوحة أو يشير إليها، والتَّعليل بجميع ذلك من أجل مجرَّد الاختلاف غير قادحٍ؛ إذ لا يلزم من مجرَّد الاختلاف اضطرابٌ يوجب الضَّعف، وحينئذٍ فينتفي الاعتراض عمَّا هذا سبيله، وفي «البخاريِّ» في «الجنائز» من هذا الثَّاني: حديث اللَّيث عن الزُّهريِّ عن عبد الرَّحمن بن كعبٍ عن جابرٍ: «أنَّ النَّبيَّ ﷺ كان يَجمعُ بين قتلى أُحُدٍ ويُقدِّم أقرأهم» [خ¦١٣٤٣]. قال الدَّارقطنيُّ: رواه ابن المبارك عن
أي: كما في حديث ابن جريج، إذ أخرجاه عن الزُّهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه وعمهِ عُبيد الله بن كعب، عن كعب: «أَنَّ النَّبِي ﷺ كان إِذَا قَدِمَ من سَفَرٍ ضُحَىً بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ … » الحديث.
قال الدَّارقطني: خالفَ فيه ابنُ جُريج مَعْمَرًا، فقال: عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه قال: ورواية ابن جُرَيْجٍ أصحُّ ولا يضرهُ من خالفه. انتهى.
قال ابن حجر: قول مَعْمَر وغيره: (عبد الرحمن بن كعب) يُحمل على أنَّه منسوب إلى جده فتكونُ روايتهم منقطعةً، وهذا الجوابُ صحيحٌ من الدَّارَقُطْني في أنَّ الاختلافَ في مثلِ هذا لا يضرُّ.
قوله: (إِنْ كَانَ سَمِعَهُ من الطَّرِيْقِ النَّاقِصَةِ … ) إلى آخره، في العبارةِ تصرفٌ بنقصٍ مُخِلٍّ، وأصلها: (لأنَّ الراوي إن كان سمعه) فالزيادةُ لا تضر؛ لأنَّه قد يكون سمعهُ بواسطةٍ عن شيخه ثم لقيه فسمعه منه، وإن كانَ لم يسمعه في الطريق الناقصة فهو منقطعٌ … إلى آخره، ثم مَثَّلَ لهذا؛ -أعني: لما لم يسمعه- بحديث الأعمش، عن مُجَاهد، عن طاوس، عن ابن عباس في قصة القبرينِ عندهم.
قوله: (إِنْ كَانَ مُدَلِّسًا)؛ أي: هذا الراوي.
وقوله: (مِنْ طَرِيْقٍ أُخْرَى)؛ أي: غيرِ هذه، مع كونه صرَّحَ في هذه بالسماع، وقد اختصر الشارح عبارة المقدمة فأوهم لولا ما قررناه، وأصلُ العبارة: فينظر إن كان ذلك الراوي صحابيًا أو ثقة غير مدلس قد أدرك مَن روى عنه إدراكًا بينًا أو صرح بالسماع إن كان مُدلسًا من طريق أخرى، فَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ … إلى آخره.
قوله: (وَإِنْ لَمْ يُوْجَدْ)؛ أي: كونُ الراوي غيرَ مدلِّس أو مدلِّسًا صرح بالسماع بأن كان مدلِّسًا لم يصرحْ بالسماع فيكونُ الانقطاع حينئذٍ ظاهرًا كما قال، وقد مَثَّلَ لذلك الدَّارَقُطْنِي بحديث أبي مروان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أم سلمة أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال لها: «إِذَا صَلَّيْتِ الصُّبْحَ فَطُوفِي عَلَى بَعِيرِكِ وَالنَّاسُ يُصَلُّوْنَ … » الحديث، فهذا منقطعٌ، وقد وصلهُ حفص بن غياث، عن هشام، عن أبيه، عن زينب، عن أمِّ سَلَمَةَ، ووصله مالك، عن أبي الأسود، عن عروة كذلك في «الموطأ»، وهو عند المصنف في هذا المكان مقرونٌ بحديث أبي مروان، وقد وقع في بعض النُّسخ -وهي رواية الأَصيلي- في هذا عن هشام، عن أبيه، عن زينب، عن أم سلمة موصولًا، لكن معظم الروايات على إسقاط زينب، وهو الصحيح المحفوظُ من حديث هشام، وإنَّما اعتمد البخاريُّ فيه رواية مالك التي أثبتَ فيها ذكرَ زينب، ثم ساقَ معها رواية هشام التي سقطتْ منها حاكيًا للخلاف فيهِ على عروةَ كعادتِهِ، مع أنَّ سماعَ عُروة من أم سَلَمَةَ ليسَ بِمُسْتَبْعَدٍ.
قوله: (مِنْ ذَلِكَ)؛ أي: ممَّا اختلفت فيه الرواة بالزيادة والنقص.
قوله: (خَالَفَ مَنْصُوْرٌ … ) إلى آخره؛ أي: فأسقطَ طَاوِسًا.
قوله: (عَنْ عَبِيْدَةَ) بفتح المهملة وكسر الموحدة، فإنَّ عُبَيْدَةَ كُلُّهُ بالضم إلَّا أربعةٌ ذكرناهم في «رضاب المرتشف» منهم ابن حميد هذا.
قوله: (فَإِنْ أَمْكَنَ … ) إلى آخره، شرعَ في الجوابِ عن ذلكَ.
قوله: (وَهُوَ تَعْلِيْلٌ لَا يَضُرُّ)؛ أي: لأنَّ الغرض أنَّهُمَا مُتعادلان في الحفظ مع ذكر المصنف كلًا منهما.
قوله: (فَيُخَرِّجُ … ) إلى آخره، هو جوابُ هذا النوع.
قوله: (وَيُقَدِّمُ أَقْرَأُهُم)؛ أي: للصلاة عليه.