الحمد لله إذا لم يأتني أجلي ... حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
فلما وصلت إلى عمر رضي الله عنه، قال: كم عطاء لبيد؟ قالوا ألفان.
فقال: زيدوه خمسمائة، فكان عطاؤه ألفين وخمسمائة في خلافة عمر وعثمان وعلي ومعاوية وتوفي سنة ٤١ من الهجرة، وكان يطعم كلما هبت الصبا، والتزم ذلك في الإسلام. وقيل: انه عاش مائة وثلاثين سنة ومن شعره:
ما عاتب المرء الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس الصالح
واستوطن الكوفة، وعلى العراق الوليد بن عقبة، وهبت الصبا، وليس عنده ما يطعم به، فعلم بذلك الوليد، فأرسل إليه بابل، فنحرها، وأطعم الناس، فقال لابنته إلا قلت فيه شعراً تشكرينه به فأنشدت:
إذا هبت رياح أبي عقيل ... دعونا عند هبتها الوليدا
أغر الوجه ابيض عبشمي ... أعان على مروءته لبيدا
بأمثال الهضاب كأن ركبا ... عليها من بني حام قعودا
جزاك الله خيراً من أمير ... نحرناها وأطعمنا الثريدا
فعد أن الكريم له معاد ... وظني يا ابن أرى أن تعودا
فقال لبيد: لقد أحسنت إلا انك استزدته، فقالت: إنه ملك، وليس بسوقة، وليس في سؤاله نقص. ونبغ بالشعر، وهو غلام، وجرى فيه على سنن الأشراف والفرسان، وكان بين قبيلته، وبين بني عبس أخواله عداوة شديدة في الجاهليه، فاجتمع وفداهما عند النعمان بن المنذر، وعلى العبسيين الربيع بن زياد، وعلى العامريين ملاعب الاسنة، وكان الربيع مقرباً عند النعمان، يواكله وينادمه، فأوغر صدره على العامريين، فلما دخل وفدهم على النعمان، أعرض عنهم فشق ذلك عليهم، ولبيد يومئذ صغير يحفظ ابلهم، ويرعاهم فسألهم عن خطيبهم، فاحتقروه لصغره، فألح حتى أخبروه فوعدهم انه سينتقم منه غداً عند النعمان أسوأ انتقام بهجاء لا يجالسه بعد، ولا يواكله، فكان ذلك فانه لما دخل عليه خاطب الربيع بكلام أمضه، وأوجعه، وأنشد يخاطب النعمان:
مهلاً ابيت اللعن لا تأكل معه ... فاسته من برص ملمعه
وانه يدخل فيها أصبعه ... يدخلها حتى يوارى أشجعه
كأنه يطلب شيئاً ضيعه فقال النعمان: حسبك لقد نكدت علي ما مضى من الأكل معه وقال للربيع: أنت كما قال، فقال: كذب علي فإن كنت في شك فأمر من يجردني وينظرني فقال النعمان:
شرد برحلك عني حيث شئت ولا ... تكثر علي ودع عنك الأقاويلا
قد قيل ما قيل أن صدقاً وان كذباً ... فما اعتذارك من قول إذا قيلا
وأهمل النعمان الربيع، وجفاه، وأقبل على العامريين وأجزل صلتهم، وحباهم، وقضى حوائجهم، وكان هذا أول ما اشتهر به لبيد، ثم قال بعد ذلك المقطعات والمطولات، وشهد النابغة له، وهو غلام بأنه أشعر هوازن حين رأى معلقته وهي هذه:
عفت الديار محلها فمقامها ... بمنىً تأبد غولها فرجامها
فمدافع الريان عري رسمها ... خلقا كما ضمن الوحي سلامها
رزقت مرابيع النجوم وصابها ... ودق الرواعد جودها فرهامها
من كل سارية وغاد مدجن ... وعشية متجاوب ارزامها
فعلا فروع الأبقهان واطفلت ... بالجلهتين ظباؤها ونعامها
والعين ساكنة على أطلائها ... عوذا تأجل بالفضاء بهامها
وجلا السيول عن الطلول كأنها ... زبر تجد متونها أقلامها
أو رجع واشمة أسف نؤورها ... كففاً تعرض فوقهن وشامها
فوقفت أسألها وكيف سؤالنا ... صما خوالد ما يبين كلامها
عريت وكان بها الجميع فأبكروا ... منها وغودر نؤيها وثمامها
شاقتك ظعن الحي حين تحملوا ... فتكنسوا قطناً تصر خيامها
من كل محفوف يطل عصيه ... زوج عليه كلة وقرامها
زجلاً كأن نعاج توضح فوقها ... وظباء وجرة غطفا آرامها
حفزت وزايلها السراب كأنها ... اجزاع بيشة أثلها ورضامها
بل ما تذكر من نوادر وقد نأت ... وتقطعت أسبابها ورمامها
مرية حلت بفيد وجاورت ... أهل الحجاز فأين منك مرامها
بمشارق الجبلين أو بمحجر ... فتضمنتها فردة فرخامها
فصوائق لبانة من تعرض وصله ... ولشر واصل خلة صرامها
وأحب المجامل بالجزيل وصرمه ... باق إذا ظلعت وزاغ قوامها
بطيلح أسفار تركن بقية ... منها وأحنق صلبها وسنامها