كأنما هو في حل ومرتحل ... موكل بفضاء الأرض يذرعه
إذا الزمان أراه في الرحيل عغنى ... ولو إلى السند أضحى وهو يزمعه
تأبى المطامع إلى أن تجشمه ... للرزق كداً وكم ممن يودعه
وما مجاهدة الإنسان توصله ... رزقاً ولا دعة الإنسان تقطعه
والله قسم بين الخلق رزقهم ... لم يخلق الله من خلق يضيعه
لكنهم ملؤوا حرصا فلست ترى ... مسترزقاً وسى الغايات يقنعه
والسعي في الرزق والأرزاق قد قسمت ... بغي إلا أن بغي المرء يصرعه
والدهر يعطي الفتى ما ليس يطلبه ... يوماً ويمنعه من حيث يطمعه
أستودع الله في بغداد لي قمرا ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودى أن يودعني ... طيب الحياة واني لا أودعه
وكم تشفع بي أن لا أفارقه ... وللضرورة حال لا تشفعه
وكم تشبث بي يوم ارحيل ضحى ... وأدمعي مستهلات وأدمعه
لا اكذب الله ثوب الصبر منخرق ... عنى بفرقته لكن أرقعه
إني أوسع عذري في جنايته ... بالبين عنه وقلبي لا يوسعه
أعطيت ملكا فلم أحسن سياسته ... وكل من لا يسوس الملك يخلعه
ومن غدا لابساً ثوب النعيم بلا ... شكر عليه فعنا الله ينزعه
اعتضت من وجه خلي بعد فرقته ... كأساً أجرع منها ما أجرعه
كم قائل لي ذنب البين قلت له ... الذنب والله ذنبي لست ادفعه
هلا أقمت فكان الرشد أجمعه ... لو إنني يوم بان الرشد أتبعه
إني لأقطع أيامي وأنفذها ... بحسرة منه في قلبي تقطعه
بمن إذا هجع النوام بت له ... بلوعة منه ليلي لست أهجعه
لا يطمئن لجنبي مضجع وكذا ... لا يطمئن له مذ بنت مضجعه
ما كنت احسب أن الدهر يفجعني ... به ولا أن بي الأيام تفجعه
حتى جرى الدهر فيما بيننا بيد ... عسراء تمنعني حظي وتمنعه
بلله يا منزل القصف الذي درست ... آثاره وعفت مذ غبت أربعه
هل الزمان معيد فيك لذتنا ... أم الليالي التي أمضته ترجعه
في ذمة الله من أصبحت منزله ... وجاد غيث على مغداك يمرعه
من عنده لي عهد لا يضيعه ... كما له عهد صدق لا أضيعه
ومن يصدع قلبي ذكره وإذا ... جرى على قلبه ذكرى يصدعه
لأصبرن لدهر لا يمتعني ... به ولا بي في حال يمتعه
علماً بأن اصطباري معقب فرجاً ... وأضيق الأمر أن فكرت أوسعه
عل الليالي التي أضنت بفرقتنا ... جسمي ستجمعني يوماً وتجمعه
وان يدم أبداً هذا الفراق لنا ... فما الذي بقضاء الله نصنعه
تم الاختيار من شعر ابن زريق البغدادي وأخباره ويليه الاختيار من شعر ابن حيوس وأخباره.
[شعر]
ابن حيوس هو أبو افتيان محمد بن سلطان بن محمد بن حيوس الشاعر المشهور، وأحد الشعراء الشاميين المحسنني، ومن فحولهم المجيدين، له ديوان كبير، وكان نقطعاً إلى بني مرداس أصحاب حلب، وله فيهم القصائد الأنيقة، وقصته مشهورة مع الأمير جلال الدولة أبي المظفر نصر بن محمود بن مرداس الكلابي صاحب حلب، فانه كان مدح أباه محمود بن نصر، فأجازه ألف دينار فلما مات وقام ابنه نصر المذكور قصده ابن حيوس المذكور بقصيدته الرائية يمدحه بها ويعزيه عن أبيه وهي:
كفى الدين عزاً ما قضاه لك الدهر ... فمن كان ذا نذر فقد وجب النذر
ومنها:
ثماتية لم تفترق مذ جمعتها ... فلا افترقت ما ذب عن ناظر شفر
يقينك والتقوى وجودك والغنى ... ولفظك والمعنى وعزمك والنصر
وذكر فيه وفاة أبيه توليه الأمر بعده بقوله:
صبرنا على حكم الزمان الذي سطا ... على انه لولاك لم يكن الصبر
غزانا ببؤسى لا يماثلها الأسى ... تقارن نعمى لا يقوم بها الشكر
ومنها:
تباعدت عنكم حرقة لا زهادة ... وسرت إليكم حين مسني الضر
فلا قيل ظل الامن ما عنه حاجز ... يصد وباب العز ما دونه ستر
وطال مقامي في اسار جميلكم ... فدامت معإليكم ودام لي الأسر
وأنجز لي رب السماوات وعده ... الكريم بأن العسر يتبعه اليسر
فجاد ابن نصر لي بألف تصرمت ... واني عليم أن سيخلفها نصر