نعم تجنب لا يوم العطاء كما ... تجنب ابن عطاء لثغة الراء
وهو من قول الفرزدق في علي بن الحسين رضي الله عنهما:
ما قال لاقط إلا في تشهده ... لولا التشهد كانت لاءه نعم
ومثله ما قيل في قثم بن العباس:
أعفيت من حل ومن رحلة ... يا ناق إن أدنيتني من ثم
إنك إن أدنيتنيهِ غداً ... حالفني اليسر ومات العدم
في وجه نور وفي باعه ... طول وفي العرين منه شمم
أصم عن قيل الخنا سمعه ... وما عن الخير به من صمم
لم يدر ما (لا) (وبلى) قد درى ... فعافها واعتاض عنها (نعم)
ومنه قول الآخر:
أبي جوده (لا) البخل واستعجلت به ... (نعم) من فتى لا يمنع الجود قائله
وقال الآخر:
بدأت بمعروف وثنيت بالرضى ... وثلثت بالحسنى وربعت بالكرم
وباشرت أمري واعتنيت بحاجتي ... وأخرت (لا) عني وقدمت لي (نعم)
وصدقت لي ظني وأنجزت موعدي ... وطبت به نفساً ولم تتبع الندم
فإن نحن وافينا بشكر فواجب ... وإن نحن قصرنا فما الود متهم
[حسن البشر وكرم الأخلاق]
قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن لم تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجوه، وحسن الأخلاق) وحسبك مدحاً لحسن الخلق قوله تعالى لنبيه (وإنك لعلى خلق عظيم) قالت عائشة رضي الله عنها: كان خلقه القرآن يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه، وقال علي بن أب طالب رضي الله عنه: رب عزيز أذله خرقه، وذليل أعزه خلقه.
وقال: من لم تصلح أخلاقه لم ينفع الناس تأديبه، وكان يقال: ألق صاحب الحاجة بالبشر فإن عدمت شكره لم تعدم عذره، ووصف أعرابي رجلاً بحسن الشرف، فقال: لا تراه الدهر إلا كأنه لا غناء به عنك، وإذا أذنبت غفر، وكأنه المذنب، وإن أحسن اعتذر، وكأنه المسيء، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، (مكارم الأخلاق عشرة، تكون في الرجل، ولا تكون في ابنه، وتكون في الابن، ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد، ولا تكون في سيده قيل يا رسول الله ما هن؟ قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وصدق البأس، وإعطاء السائل، والمكافأة بالصنائع، وصلة الرحم، والتذمم للجار والصاحب، والحلم في القدرة، والمواساة في الشدة، وقرى الضيف، ورأسهن الحياء) قال عصام بن الصطلق: دخلت المدينة فرأيت الحسن بن علي رضي الله عنهما، فأعجبني سمته ورواؤه، فأثار مني الحسد ما أجنه صدري من البغض لأبيه، فقلت له: أنت ابن علي بن أبي طالب؟ قال: نعم فبالغت في شتمه وشتم أبيه، فنظر إلي نظرة عاطف رؤوف، ثم قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين) (وأما ينزغنك من الشيطان نزع فاستبعد بالله إنه سميع عليم) (إن الذين اتقوا إذا مهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرين) .
ثم قال لي: خفض عليك استغفر اله ولك لو استعنتنا أعناك، ولو استرفدتنا رفدناك، ولو استرشدتنا أرشدناك. قال عصام: فتوسم في الندم على ما أفرط مني فقال: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) أمن أهل الشام أنت؟ فقلت: نعم، فقال: شنشنة أعرفها من أخزم، حياك الله وبياك، انبسط إلينا في حوائجك، وما يعرض لك تجدنا عند أفضل ظنك إن شاء الله، قال عصام: فضاقت علي الأرض بما أحب إلي منه ومن أبيه.
ما جاء في الاستعطاف والتنقل فيه بالمعاني اللطيفة والمقاصد الظريفة، فمن ذلك، وهو من أبلغ تلطفات الشعراء في التوصل إلى استعطاف الملوك والأمراء قول أبي سعيد الستمي يخاطب زوجته في أول قصيدة مدح بها الصاحب بن العباد وهي من غرر القصائد وهي:
أمنجزتي وعدي فقد رحل الركب ... ولم تتأن العيس أم تقف الصحب
خليلي لا تستنكرا طول عتبها ... علي فإن الحب أكثره عتب
بنفسي بيضاء العوارض أعرضت ... بوجه كأن الشرق من حسنه غرب
وبين الإزار المرتوي حقف رملة ... وبين الوشاح الملتوي غصن رطب
وتحت لثام الخز أنفاسها الضنى ... وفوق رداء الكبر أدمعها سكب
تبدت مع الأتراب تدعو على النوى ... وإن لم يكن في الغانيات لها ترب
تسيل على الخد الأسيل دموعها ... وصب دموع العين يروى به الصب
وقد وكلت إحدى يديها بقلبها ... مخافة أن برفض من صرها القلب