للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

روي أن المأمون قال للقاضي يحيى بن أكثم ما العشق؟ فقال يحيى: سوانح تسنح للمرء، فيهيم بها قلبه، وتتواتر بها نفسه. فقال له: ثمامة: أمسك أيها القاضي رحمك الله إنما عليك أن تجيب في مسألة طلاق، أو محرم صاد صيدا، وأما هذا فمن مسائلنا نحن فقال المأمون: قل يا ثمامة، فقال: العشق جليس ممتع، وأليف مؤنس، وصاحب مالك، ومالك قاهر، مسالكه لطيفة، ومذاهبه متضادة، وأحكامه جائرة، مالك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والنفوس وآراءها وأعطي زمام طاعتها وقياد مملكتها توارى عن الأبصار مدخله، وغميض عن القلوب مسلكه. قال المأمون: أحسنت يا ثمامة. وأمر له بألف دينار.

قال الأصمعي: سئلت أعرابية عن العشق، فقالت: جل والله أن يرى، وخفي عن عيون الورى، فهو في الصدور كامن كمون النار في الحجر، إن قدحته أورى، أو تركته توارى.

وقيل لأبي زهير المدني: ما العشق؟ فقال: الجنون داء أهل الذل، وهو داء أهل الظرف. وقال بعض الأطباء في صفة الحب: امتزاج الروح بالروح، ولو امتزج الماء بالماء لامتنع تخليص بعضه من بعض فكيف والروح ألطف امتزاجاً، وأرق مسلكاً. وسئل أعرابي عن الهوى، فقال: هو أغمض مسلكا في القلب من الروح في الجسد، وأملك من النفس بالنفس، بطن وظهر، لطف وكثف، فامتنع عن وصفه المسلك والكمون. وروى أهل السير أن الذين علق الحب قلوبهم فماتوا، أو جنوا هم الذين لا يزيل صاحبه أبداً حتى يموت، أو يهم على وجهه، ويشهد بذلك قول المجنون:

وعلقت ليلى وهي ذات موصد ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجم

صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا ... صغيران لم نكبر ولم يكبر البهم

ومنه قول جميل:

علقت الهوى منها وليداً ولم يزل ... إلى الآن ينمو حبها ويزيد

وأفنيت عمري في انتظار نواله ... وأفنيت بذاك العمر وهو جديد

وروى سهل بن سعد، قال: كنت بمصر، وخرجت لحاجة، فلقيني صديق لي في بعض الطرق، فقال لي: هل لك أن تعدل إلى عيادة جميل، فقد ثقل مرضه؟ قلت: نعم، فدخلنا عليه وهو يجود بنفسه، فنظر إلي، فقال: يا ابن سعد ما تقول في رجل لم يزن قط، ولم يشرب مداماً، ولم يسفك دماً حراماً، قد أتت عليه خمسون سنة يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً سول الله؟ فقلت: من هذا؟ فإني أظنه ناجياً من عذاب النار إن شاء الله قال: أنا ذلك. قلت سبحان الله! ما رأيت كاليوم أعجب من هذا، وما أحسبك تسلم، وأنت تشبب ببثينة من عشرين سنة، فقال: إني في آخر يوم الدنيا، وأول يوم من الآخرة، فلا نالتني شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن وضعت يدي عليها لريبة، وإنما أكثر ما يكون مني إليها أني آخذ يدها فأضعها على قلبي، فأستريح إليها، ثم أغمي عليه فأفاق وأنشد:

صرخ النعي وما كنى بجميل ... وثوى بمصر ثواء غير قفول

ولقد أجر الذيل في وادي القرى ... نشوان بين مزارع ونخيل

قومي بثينة فاندبي بعويل ... وأبكي خليلك دون كل خليل

ثم غمي عليه فمات رحمه الله.

<<  <   >  >>