للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

عَلَى مَا ظَنَّهُ مِنْهُ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ الَّتِي رَآهُ صَلَّاهَا. وَقَوْلُ وَاسِعٍ (لَا أَدْرِي) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا شُعُورَ عِنْدَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا ظَنَّهُ بِهِ، وَلِذَا لَمْ يُغْلِظْ لَهُ ابْنُ عُمَرَ فِي الزَّجْرِ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ اسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ فِي الْأَبْنِيَةِ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ عَلَى جَوَازِ اسْتِقْبَالِهَا، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمْ عَنْ جَابِرٍ: " «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَانَا أَنْ نَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ أَوْ نَسْتَقْبِلَهَا بِفُرُوجِنَا إِذَا أَهْرَقْنَا الْمَاءَ ثُمَّ رَأَيْتُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ يَبُولُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ» "، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَاسِخٍ لِحَدِيثِ النَّهْيِ خِلَافًا لِزَاعِمِهِ، بَلْ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ رَآهُ فِي بِنَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ حَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُبَالَغَتِهِ فِي السِّتْرِ، وَرُؤْيَةُ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ لَهُ كَانَتْ بِلَا قَصْدٍ، وَدَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ خُصُوصِيَّةٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ؛ إِذِ الْخَصَائِصُ لَا تَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَلَوْلَا حَدِيثُ جَابِرٍ لَكَانَ حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ لَا يَخُصُّ مِنْ عُمُومِهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ إِلَّا الِاسْتِدْبَارَ فَقَطْ، وَلَا يَصِحُّ إِلْحَاقُ الِاسْتِقْبَالِ بِهِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ قَوْمٌ فَقَالُوا: يَجُوزُ الِاسْتِدْبَارُ دُونَ الِاسْتِقْبَالِ.

وَبِالْفَرْقِ بَيْنَ الْبُنْيَانِ وَالصَّحْرَاءِ مُطْلَقًا؛ قَالَ الْجُمْهُورُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ لِإِعْمَالِهِ جَمِيعَ الْأَدِلَّةِ.

وَقَالَ قَوْمٌ بِالتَّحْرِيمِ مُطْلَقًا وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَرَجَّحَهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَمِنَ الظَّاهِرِيَّةِ ابْنُ حَزْمٍ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ النَّهْيَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَلَمْ يُصَحِّحُوا حَدِيثَ جَابِرٍ، وَقَالَ قَوْمٌ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ وَعُرْوَةَ وَرَبِيعَةَ وَدَاوُدَ؛ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ تَعَارَضَتْ فَرَجَعَ إِلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ. وَقِيلَ: يَجُورُ الِاسْتِدْبَارُ فِي الْبُنْيَانِ فَقَطْ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ. وَقِيلَ: يَحْرُمُ مُطْلَقًا حَتَّى فِي الْقِبْلَةِ الْمَنْسُوخَةِ وَهِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ لِحَدِيثِ مَعْقِلٍ الْأَسَدِيِّ: " «نَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَتَيْنِ بِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَالْمُرَادُ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَنْ عَلَى سَمْتِهَا؛ لِأَنَّ اسْتِقْبَالَهُمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ يَسْتَلْزِمُ اسْتِدْبَارَهُمُ الْكَعْبَةَ، فَالْعِلَّةُ اسْتِدْبَارُهَا لَا اسْتِقْبَالُهُ. وَقِيلَ: يَخْتَصُّ التَّحْرِيمُ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ عَلَى سَمْتِهَا، فَأَمَّا مَنْ قِبْلَتُهُ فِي الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ فَيَجُوزُ لَهُ الِاسْتِقْبَالُ وَالِاسْتِدْبَارُ مُطْلَقًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ: " «شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» " انْتَهَى.

قَالَ الْبَاجِيُّ: أَدْخَلَ مَالِكٌ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي الرُّخْصَةِ فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَإِنَّمَا فِيهِ رَأَيْتُهُ يَسْتَقْبِلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الِاسْتِقْبَالَ وَالِاسْتِدْبَارَ، فَإِذَا اسْتَقْبَلَ بِالْمَدِينَةِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَقَدِ اسْتَدْبَرَ مَكَّةَ فَرَاعَى مَالِكٌ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْقِبْلَةُ فِي التَّرْجَمَةِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ قِبْلَةً؛ فَإِنْ نُسِخَتِ الصَّلَاةُ إِلَيْهَا فَسَائِرُ أَحْكَامِهَا وَحَرَمِهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مَا كَانَتْ قَبْلَ النَّسْخِ، وَقَدْ رُوِيَ النَّهْيُ عَنِ اسْتِقْبَالِهَا وَإِنْ كَانَ إِسْنَادُهُ ضَعِيفًا فَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْهَى عَنِ اسْتِقْبَالِهِ حِينَ كَانَ قَبْلَهُ ثُمَّ نَهَى عَنِ اسْتِقْبَالِهِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْأَدِلَّةُ، انْتَهَى.

وَحَدِيثُ الْبَابِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ نَحْوُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>