الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالْبَزَّارُ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: وَنَقَلَ ابْنُ زَبَالَةَ أَنَّ ذَرْعَ مَا بَيْنَ بَيْتِهِ وَمِنْبَرِهِ ثَلَاثٌ وَخَمْسُونَ ذِرَاعًا، وَقِيلَ: أَرْبَعٌ وَخَمْسُونَ وَسُدْسٌ. وَقِيلَ: خَمْسُونَ إِلَّا ثُلْثَيْ ذِرَاعٍ وَهُوَ الْآنَ كَذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ نَقَصَ لَمَّا أُدْخِلَ مِنَ الْحُجْرَةِ فِي الْجِدَارِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ بَيْتِي، وَيُرْوَى " قَبْرِي " وَكَأَنَّهُ بِالْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ دُفِنَ فِي بَيْتِ سُكْنَاهُ وَالْمَوْصُولُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ: (رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ) حَقِيقَةٌ بِأَنْ تَكُونَ مُقْتَطَعَةً مِنْهَا كَمَا أَنَّ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَالنِّيلَ وَالْفُرَاتَ وَسَيْحَانَ وَجَيْحَانَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَكَذَا الثِّمَارُ الْهِنْدِيَّةُ مِنَ الْوَرَقِ الَّتِي أُهْبِطَ بِهَا آدَمُ مِنْهَا، فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ مِيَاهِ الْجَنَّةِ وَتُرَابِهَا وَفَوَاكِهِهَا لِيَتَدَبَّرَ الْعَاقِلُ فَيُسَارِعُ إِلَيْهَا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، أَوْ أَنَّ تِلْكَ الْبُقْعَةَ تَنْقُلُ بَيْنَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَكُونُ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ مِنْ مَجَازِ الْأَوَّلِ أَيْ: إِنَّ الْمُلَازِمَ لِلطَّاعَاتِ فِيهَا تُوَصِّلُهُ لِلْجَنَّةِ كَخَبَرِ: " «الْجَنَّةُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ» " وَنَظَرٌ فِيهِ بِأَنَّهُ لَا اخْتِصَاصَ لِذَلِكَ بِتِلْكَ الْبُقْعَةِ عَلَى غَيْرِهَا، فَالْعِبَادَةُ فِي أَيِّ مَكَانٍ، كَذَلِكَ وَرَدَ بِأَنَّهُ سَبَبٌ قَوِيٌّ يُوصِلُ إِلَيْهَا عَلَى وَجْهٍ أَتَمَّ مِنْ بَقِيَّةِ الْأَسْبَابِ، أَوْ هِيَ سَبَبٌ لِرَوْضَةٍ خَاصَّةٍ أَجَلَّ مَنْ مُطْلَقِ الدُّخُولِ وَالتَّنَعُّمِ، فَأَهْلُ الْجَنَّةِ يَتَفَاوَتُونَ فِي مَنَازِلِهَا بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، أَوْ هُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ؛ أَيْ: كَرَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِهَا فِي تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَحُصُولِ السَّعَادَةِ، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ فَهِيَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَالْعَمَلُ فِيهَا يُوجِبُ لِصَاحِبِهِ رَوْضَةً جَلِيلَةً فِي الْجَنَّةِ، وَتُنْقَلُ هِيَ أَيْضًا إِلَى الْجَنَّةِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَإِذَا تَأَوَّلْنَا أَنَّ اتِّبَاعَ مَا يُتْلَى فِيهَا مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ يُؤَدِّي إِلَى الْجَنَّةِ لَمْ يَكُنْ لِلْبُقْعَةِ فَضِيلَةٌ، إِذْ لَا تَخْتَصُّ بِذَلِكَ، وَإِنْ قُلْنَا مُلَازَمَتُهَا بِالطَّاعَةِ يُؤَدِّي إِلَى رِيَاضِ الْجَنَّةِ لِفَضْلِ الصَّلَاةِ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَهَذَا بَيِّنٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ عَلَى تَفْضِيلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَلِذَا أَدْخَلَهُ مَالِكٌ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، قَالَ مُطَرِّفٌ: وَهَذِهِ الْفَضِيلَةُ فِي النَّافِلَةِ أَيْضًا.
(وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي) أَيْ: يُنْقَلُ الْمِنْبَرُ الَّذِي قَالَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُنْصَبُ عَلَى حَوْضِهِ، ثُمَّ تَصِيرُ قَوَائِمُهُ رَوَاتِبَ فِي الْجَنَّةِ كَمَا فِي حَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ بَدَلَ قَوْلِهِ: " «عَلَى حَوْضِي وَمِنْبَرِي» " «عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ» "، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْبَرُهُ الَّذِي كَانَ يَخْطُبُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ التَّعَبُّدُ عِنْدَهُ يُورِثُ الْجَنَّةَ فَكَأَنَّهُ قِطْعَةٌ مِنْهَا، وَقِيلَ: مِنْبَرٌ يُوضَعُ لَهُ هُنَاكَ، وَرَدَّهُ الْبَاجِيُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ مَا يَقْتَضِيهِ، وَهُوَ قَطْعٌ لِلْكَلَامِ عَمَّا قَبْلَهُ بِلَا ضَرُورَةٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بِرِجَالِ الصَّحِيحِ: " «مِنْبَرِي هَذَا عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ» " فَاسْمُ الْإِشَارَةِ ظَاهِرٌ وَصَرِيحٌ فِي أَنَّهُ مِنْبَرُهُ فِي الدُّنْيَا، وَالْقُدْرَةُ صَالِحَةٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الِاعْتِصَامِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ خُبَيْبٍ بِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحْدَهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute