(وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَحُمِلَ فِي خَبِيئَتِهِ) جِلْدِهِ الَّذِي يُخَبَّأُ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَقِيَاسُهُ مَنْعُهُ بِالْعِلَاقَةِ وَالْوِسَادَةِ إِذْ لَا فَارِقَ (وَلَمْ يُكْرَهْ ذَلِكَ لَأَنْ) أَيْ لَيْسَتْ عِلَّةُ الْكَرَاهَةِ بِمَعْنَى التَّحْرِيمِ لِأَجْلِ أَنْ (يَكُونَ فِي يَدَيِ الَّذِي يَحْمِلُهُ شَيْءٌ يُدَنِّسُ بِهِ الْمُصْحَفَ) ; إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَازَ إِذَا كَانَتَا نَظِيفَتَيْنِ لِانْتِفَاءِ الْمَعْلُولِ بِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ، (وَلَكِنْ إِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ) كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ (لِمَنْ يَحْمِلُهُ وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ، إِكْرَامًا لِلْقُرْآنِ وَتَعْظِيمًا لَهُ) ، فَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ مَنْ فِي يَدَيْهِ دَنَسٌ وَمَنْ لَا، (قَالَ مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ) الَّتِي هِيَ {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: ٧٩] ، إِنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي فِي عَبَسَ) : تَطْلُبُ وَجْهَهُ، (وَتَوَلَّى) : أَعْرَضَ، وَهِيَ (قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (كَلَّا) : لَا تَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ (إِنَّهَا) : أَيِ السُّورَةَ أَوِ الْآيَاتِ (تَذْكِرَةٌ) : عِظَةٌ لِلْخَلْقِ {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [عبس: ١٢] : حَفِظَ ذَلِكَ فَاتَّعَظَ بِهِ {فِي صُحُفٍ} [عبس: ١٣] : خَبَرٌ ثَانٍ ; لِأَنَّهَا وَمَا قَبْلَهُ اعْتِرَاضٌ (مُكَرَّمَةٍ) : عِنْدَ اللَّهِ (مَرْفُوعَةٍ) : فِي السَّمَاءِ (مُطَهَّرَةٍ) : مُنَزَّهَةٍ عَنْ مَسِّ الشَّيَاطِينِ (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) : كَتَبَةٍ يَنْسَخُونَهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: ١٦] : مُطِيعِينَ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ
قَالَ الْبَاجِيُّ: ذَهَبَ مَالِكٌ فِي تَأْوِيلِ آيَةِ {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: ٧٩] (سُورَةُ الْوَاقِعَةِ: الْآيَةُ: ٧٩) إِلَى أَنَّهُ خَبَرٌ عَنِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَصَاحِفُ الَّتِي بِأَيْدِي النَّاسِ، وَأَنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ ; لِأَنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ خِلَافَهُ، وَقَدْ وُجِدَ مَنْ يَمَسُّهُ غَيْرَ طَاهِرٍ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّهْيُ، قَالَ: وَأَدْخَلَ مَالِكٌ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْبَابِ وَلَيْسَ يَقْتَضِي تَأْوِيلَهُ لَهَا بِالْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ لِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَدْخَلَ أَوَّلَ الْبَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ لِمَسِّ الْقُرْآنِ، وَأَدْخَلَ فِي آخِرِهِ مَا يَحْتَجُّ بِهِ مُخَالِفُهُ، فَأَتَى بِهِ وَبَيَّنَ وَجْهَ ضَعْفِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَأَوَّلَهُ عَلَى مَعْنَى الِاحْتِجَاجِ لِمَذْهَبِهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ وَصَفَ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، فَعَظَّمَهُ، وَالْقُرْآنُ الْمَكْنُونُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ هُوَ الْمَكْتُوبُ فِي مَصَاحِفِنَا، فَوَجَبَ أَنْ يَمْتَثِلَ فِيهَا مَا وَصَفَ اللَّهُ الْقُرْآنَ بِهِ، انْتَهَى.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute