أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَضَمِّنَيْنِ جَمِيعَ أَوْصَافِ الْكَمَالِ لَمْ يُوجَدَا فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ وَهُمَا: الْأَحَدُ الصَّمَدُ ; لِأَنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى أَحَدِيَّةِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِجَمِيعِ أَوْصَافِ الْكَمَالِ ; لِأَنَّ الْأَحَدَ يُشْعِرُ بِوُجُوبِ الْخَاصِّ الَّذِي لَا يُشَارِكُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَالصَّمَدُ يُشْعِرُ بِجَمِيعِ أَوْصَافِ الْكَمَالِ ; لِأَنَّهُ الَّذِي انْتَهَى مَوْرِدُهُ، فَكَانَ يَرْجِعُ مَرْجِعَ الطَّلَبِ مِنْهُ وَإِلَيْهِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ إِلَّا لِمَنْ حَازَ جَمِيعَ فَضَائِلِ الْكَمَالِ وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا اشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ كَانَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَمَامِ مَعْرِفَةِ الذَّاتِ وَصِفَاتِ الْفِعْلِ ثُلُثًا.
وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِي الثَّوَابِ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ عُقَيْلٍ بِحَدِيثِ: " «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ» ". وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ جَمِيعَهُ هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ وَلَوْ قَرَأَهَا مِائَتَيْ مَرَّةٍ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَهُ فِي الثَّوَابِ لَا أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا ثَلَاثًا كَمَنْ قَرَأَهُ كُلَّهُ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْحَدِيثِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا حَتَّى بَلَغَ تَرْدِيدُهُ لَهَا بِالْكَلِمَاتِ وَالْحُرُوفِ وَالْآيَاتِ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ عَنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ قَالَ: السُّكُوتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَشِبْهِهَا أَفْضَلُ مِنَ الْكَلَامِ فِيهَا وَأَسْلَمُ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَإِلَى هَذَا نَحَا جَمَاعَةٌ كَابْنِ حَنْبَلٍ وَابْنِ رَاهْوَيْهِ، وَأَنَّهُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يُدْرَى مَعْنَاهُ وَإِيَّاهُ أَخْتَارُ، انْتَهَى.
وَنَقَلَ ابْنُ السَّيِّدِ حَمْلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ عَنِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ، قَالَ الْأُبِّيُّ وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَخَبَرُ مُسْلِمٍ: " «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؟ قَالُوا: وَكَيْفَ؟ قَالَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: ١] » " ظَاهِرٌ بَلْ نَصٌّ فِي ذَلِكَ. وَكَذَا حَدِيثُ: احْشُدُوا أَيِ اجْتَمِعُوا، قَالَ: وَلَمْ يُؤْثِرِ الْعُلَمَاءُ قِرَاءَتَهَا عَلَى السُّوَرِ الطِّوَالِ ; لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ التَّدَبُّرُ وَالِاتِّعَاظُ وَاقْتِبَاسُ الْأَحْكَامِ.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَهُ لِمَنْ لَا يُحْسِنُ غَيْرَهَا وَمَنَعَهُ مِنْ تَعَلُّمِهِ عُذْرٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَجْرَهَا مَعَ التَّضْعِيفِ يَعْدِلُ أَجْرَ ثُلُثِ الْقُرْآنِ بِلَا تَضْعِيفٍ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الِاعْتِنَاءَ لِذَلِكَ الْقَارِي أَوِ الْقَارِئِ عَلَى صِفَةٍ مَا مِنَ الْخُشُوعِ وَالتَّدَبُّرِ وَتَجْدِيدِ الْإِيمَانِ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ، وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ.
قَالَ عِيَاضٌ: وَمَعْنَى بِلَا تَضْعِيفٍ أَيْ ثَوَابِ خَتْمَةٍ لَيْسَ فِيهَا {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: ١] ، قَالَ الْأُبِّيُّ: يُرِيدُ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ فِيهَا تَسَلْسُلٌ. وَفِي مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «احْشُدُوا فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ فَقَرَأَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: ١] ، ثُمَّ دَخَلَ، فَقَالَ بَعْضٌ لِبَعْضٍ: أَرَى هَذَا خَبَرًا جَاءَهُ مِنَ السَّمَاءِ فَذَاكَ الَّذِي أَدْخَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ فَقَالَ: " إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ أَلَا إِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» . وَإِذَا حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَهَلْ ذَلِكَ الثُّلُثُ مُعَيَّنٌ أَوْ أَيُّ ثُلُثٍ كَانَ، فِيهِ نَظَرٌ، وَعَلَى الثَّانِي مَنْ قَرَأَهَا ثَلَاثًا كَانَ كَمَنْ قَرَأَ خَتْمَةً كَامِلَةً. وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَفِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute