عِيَاضٌ: وَقَدْ يُشْعِرُ هَذَا بِفَضْلِ التَّسْبِيحِ عَلَى التَّهْلِيلِ ; لِأَنَّ عَدَدَ زَبَدِ الْبَحْرِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ الْمِائَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي مُقَابَلَةِ التَّهْلِيلِ، فَيُعَارِضُ قَوْلَهُ فِيهِ: " وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ " فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ التَّهْلِيلَ أَفْضَلُ بِمَا زِيدَ مِنْ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَكَتْبِ الْحَسَنَاتِ، ثُمَّ مَا جُعِلَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ عِتْقِ الرِّقَابِ قَدْ يَزِيدُ عَلَى فَضْلِ التَّسْبِيحِ وَتَكْفِيرِ الْخَطَايَا ; لِأَنَّهُ جَاءَ: " «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ» ". فَحَصَلَ بِهَذَا الْعِتْقِ تَفْكِيرُ الْخَطَايَا عُمُومًا بَعْدَ حَصْرِ مَا عُدِّدَ مِنْهَا خُصُوصًا مَعَ زِيَادَةِ مِائَةِ دَرَجَةٍ، وَمَا زَادَهُ عِتْقُ الرِّقَابِ الزَّائِدَةِ عَلَى الْوَاحِدَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: " «أَفْضَلُ الذِّكْرِ التَّهْلِيلُ» ". وَأَنَّهُ أَفْضَلُ مَا قَالَهُ هُوَ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِهِ وَهُوَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي ضِمْنِ " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " الْحَدِيثُ السَّابِقُ، وَالتَّهْلِيلُ صَرِيحٌ فِي التَّوْحِيدِ، وَالتَّسْبِيحُ مُتَضَمِّنٌ لَهُ، فَمَنْطُوقُ سُبْحَانَ اللَّهِ تَنْزِيهٌ، وَمَفْهُومُهُ تَوْحِيدٌ، وَمَنْطُوقُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَوْحِيدٌ، وَمَفْهُومُهُ تَنْزِيهٌ، فَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ التَّسْبِيحِ ; لِأَنَّ التَّوْحِيدَ أَصْلٌ وَالتَّنْزِيهَ يَنْشَأُ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَالْفَضَائِلُ الْوَارِدَةُ فِي التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إِنَّمَا هِيَ لِأَهْلِ الشَّرَفِ فِي الدِّينِ وَالْكَمَالِ كَالطَّهَارَةِ مِنَ الْحَرَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ مَنْ أَدْمَنَ الذِّكْرَ وَأَصَرَّ عَلَى مَا شَاءَ مِنْ شَهَوَاتِهِ، وَانْتَهَكَ دِينَ اللَّهِ وَحُرُمَاتِهِ، أَنْ يَلْتَحِقَ بِالْمُطَهَّرِينَ الْأَقْدَسِينَ، وَيَبْلُغَ مَنَازِلَ الْكَامِلِينَ بِكَلَامٍ أَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِهِ لَيْسَ مَعَهُ تَقْوَى، وَلَا عَمَلٌ صَالِحٌ. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، لَكِنَّ مُسْلِمَ وَصَلَهُ بِالْحَدِيثِ قَبْلَهُ ; لِاتِّحَادِ إِسْنَادِهِمَا بِنَاءً عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَقَدْ فَعَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ كَمَا مَرَّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute