وَإِمَّا أَنْ يُكَفَّرَ عَنْهُ» .
وَجَاءَ فِي سَاعَةِ الْجُمُعَةِ لَا يَسْأَلُ فِيهَا عَبْدٌ رَبَّهُ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ. وَقَالَ فِي الدُّعَاءِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَعِنْدَ الصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعِنْدَ الْغَيْثِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ أَنَّهَا أَوْقَاتٌ تُرْجَى فِيهَا إِجَابَةُ الدُّعَاءِ.
(فَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ) بِسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ فَهَمْزَةٍ، أَيْ أَدَّخِرَ (دَعْوَتِي) الْمَقْطُوعَ بِإِجَابَتِهَا (شَفَاعَةً لِأُمَّتِي فِي الْآخِرَةِ) فِي أَهَمِّ أَوْقَاتِ حَاجَتِهِمْ، فَفِيهِ كَمَالُ شَفَقَتِهِ عَلَى أُمَّتِهِ وَرَأْفَتُهُ بِهِمْ وَاعْتِنَاؤُهُ بِالنَّظَرِ فِي مَصَالِحِهِمْ، جَزَاهُ اللَّهُ عَنَّا أَفْضَلَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ فَضِيلَةِ نَبِيِّنَا عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ حَيْثُ آثَرَ أُمَّتَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ بِدَعْوَتِهِ الْمُجَابَةِ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا أَيْضًا دُعَاءً عَلَيْهِمْ كَمَا وَقَعَ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هَذَا مِنْ حُسْنِ تَصَرُّفِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ جَعَلَ الدَّعْوَةَ فِيمَا يَنْبَغِي، وَمِنْ كَثْرَةِ كَرَمِهِ ; لِأَنَّهُ آثَرَ أُمَّتَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمِنْ صِحَّةِ نَظَرِهِ ; لِأَنَّهُ جَعَلَهَا لِلْمُذْنِبِينَ مِنْ أُمَّتِهِ لِكَوْنِهِمْ أَحْوَجَ إِلَيْهَا مِنَ الطَّائِعِينَ، هَذَا وَقَوْلُ بَعْضِ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ: جَمِيعُ دَعَوَاتِ الْأَنْبِيَاءِ مُجَابَةٌ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ دَعَا عَلَى أُمَّتِهِ بِالْإِهْلَاكِ إِلَّا أَنَا فَلَمْ أَدْعُ فَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ لِلصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ لَا أُمَّةُ الْإِجَابَةِ، تَعَقَّبَهُ الطِّيبِيُّ بِأَنَّهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَعَا عَلَى أَحْيَاءِ الْعَرَبِ وَعَلَى أُنَاسٍ مِنْ قُرَيْشٍ بِأَسْمَائِهِمْ، وَدَعَا عَلَى رَعْلٍ وَذَكْوَانَ وَمُضَرَ، قَالَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةً تُسْتَجَابُ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ فَنَالَهَا كُلٌّ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا نَبِيُّنَا فَإِنَّهُ لَمَّا دَعَا عَلَى بَعْضِ أَمَتِهِ نَزَلَ عَلَيْهِ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: ١٢٨] (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: الْآيَةُ ١٢٨) فَأَبْقَى تِلْكَ الدَّعْوَةَ الْمُسْتَجَابَةَ مُدَّخَرَةً لِلْآخِرَةِ.
وَغَالِبُ مَنْ دَعَا عَلَيْهِمْ لَمْ يُرِدْ إِهْلَاكَهُمْ وَإِنَّمَا أَرَادَ رَدْعَهُمْ لِيَتُوبُوا. قَالَ: وَأَمَّا جَزْمُهُ أَوَّلًا بِأَنَّ جَمِيعَ أَدْعِيَةِ الْأَنْبِيَاءِ مُجَابَةٌ فَغَفْلَةٌ عَنِ الْحَدِيثِ: " سَأَلْتُ اللَّهَ ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً ". الْحَدِيثَ، انْتَهَى.
وَفِيهِ إِثْبَاتُ الشَّفَاعَةِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهِيَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ، قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: ٧٩] (سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: الْآيَةُ ٧٩) هُوَ الشَّفَاعَةُ فِي الْمُذْنِبِينَ مِنْ أُمَّتِهِ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ جُلُوسُهُ عَلَى الْعَرْشِ. وَرُوِيَ عَنْهُ كَالْجَمَاعَةِ فَصَارَ إِجْمَاعًا، وَقَدْ صَحَّ نَصًّا عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَحَادِيثُ الشَّفَاعَةِ مُتَوَاتِرَةٌ صِحَاحٌ مِنْهَا: " «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» ". وَقَالَ جَابِرٌ: مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَمَا لَهُ وَلِلشَّفَاعَةِ وَلَا يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَهْلُ الْبِدَعِ، انْتَهَى. وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ بِهِ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِهِ فَلِمَالِكٍ فِيهِ إِسْنَادَانِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute