للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِهِ وَإِفْرَادُهُ بِالِاسْتِعَانَةِ وَغَيْرِهَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَفِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ ; لِأَنَّهُ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يُجِيرَهُ بِرِضَاهُ مِنْ سَخَطِهِ، وَبِمُعَافَاتِهِ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَالرِّضَا وَالسَّخَطُ ضِدَّانِ كَالْمُعَافَاةِ وَالْعُقُوبَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ مَا لَا ضِدَّ لَهُ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اسْتَعَاذَ بِهِ مِنْهُ لَا غَيْرَ، وَمَعْنَاهُ الِاسْتِغْفَارُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي بُلُوغِ الْوَاجِبِ مِنْ عِبَادَتِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَلِذَا قَالَ: ( «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ» ) قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: أَيْ لَا أَبْلُغُ الْوَاجِبَ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْكَ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَيْ لَا أُحَصِّلُ ثَنَاءً لِعَجْزِي عَنْهُ إِذْ هُوَ نِعْمَةٌ تَسْتَدْعِي شُكْرًا، وَهَكَذَا إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا أَعُدُّ كَمَا فِي الصِّحَاحِ ; لِأَنَّ مَعْنَى الْإِحْصَاءِ الْعَدُّ بِالْحَصَى كَمَا قَالَ:

وَلَسْتَ بِالْأَكْثَرِ مِنْهُمْ حَصًى ... وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ

وَعَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ نَفْيِ الْمَلْزُومِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْإِحْصَاءِ الْمُفَسَّرِ بِالْعَدِّ وَإِرَادَةِ نَفْيِ اللَّازِمِ، وَهُوَ اسْتِيعَابُ الْمَعْدُودِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا أَسْتَوْعِبُ، فَالْمُرَادُ نَفْيُ الْقُدْرَةِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ الثَّنَاءَاتِ، أَوْ فَرْدٌ مِنْهَا يَفِي بِنِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِهِ لَا عَدِّهَا، إِذْ لَا يُمْكِنُ عَدُّ أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الثَّنَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رُوِّينَا عَنْ مَالِكٍ أَنَّ مَعْنَاهُ: وَإِنِ اجْتَهَدْتُ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْكَ فَلَنْ أُحْصِيَ نِعَمَكَ وَمِنَنَكَ وَإِحْسَانَكَ.

(أَنْتَ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (كَمَا أَثْنَيْتَ) أَيِ الثَّنَاءُ عَلَيْكَ هُوَ الْمُمَاثِلُ لِثَنَائِكَ (عَلَى نَفْسِكَ) وَلَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَنْتَ تَأْكِيدٌ لِلْكَافِ مِنْ عَلَيْكَ بِاسْتِعَارَةِ الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ لِلْمُتَّصِلِ، وَالثَّنَاءُ بِتَقْدِيمِ الْمُثَلَّثَةِ، وَالْمَدُّ الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ عَلَى الْمَشْهُورِ لُغَةً، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الشَّرِّ مَجَازٌ. وَقَالَ الْمَجْدُ: وَصْفٌ بِمَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ أَوْ خَاصٌّ بِالْمَدْحِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُبْلَغُ وَصْفَهُ وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُوصَفُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، انْتَهَى.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ اعْتِرَافٌ بِالْعَجْزِ عَنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى بُلُوغِ حَقِيقَتِهِ، وَرَدُّ الثَّنَاءِ إِلَى الْجُمْلَةِ دُونَ التَّفْصِيلِ وَالتَّعْيِينِ، فَوَكَّلَ ذَلِكَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ الْمُحِيطُ بِكُلِّ شَيْءٍ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَكَمَا أَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِصِفَاتِهِ لَا نِهَايَةَ لِلثَّنَاءِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الثَّنَاءَ تَابِعٌ لِلْمُثْنَى عَلَيْهِ فَكُلُّ شَيْءٍ أَثْنَى عَلَيْهِ بِهِ وَإِنْ كَثُرَ وَطَالَ وَبُولِغَ فِيهِ، فَقَدْرُ اللَّهِ أَعْظَمُ، وَسُلْطَانُهُ أَعَزُّ، وَصِفَاتُهُ أَكْثَرُ وَأَكْبَرُ، وَفَضْلُهُ أَوْسَعُ وَأَسْبَغُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>