للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: التَّعْرِيفُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِهَذَا الِاسْمِ بِالْحَقِيقَةِ إِذْ هُوَ مُقْتَضَى الْأَدَاةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ وَوَعْدُهُ ; لِأَنَّ وَعْدَهُ كَلَامُهُ، وَتُرِكَتْ فِي الْبَوَاقِي ; لِأَنَّهَا أُمُورٌ مُحْدَثَةٌ وَالْمُحْدَثُ لَا يَجِبُ لَهُ الْبَقَاءُ مِنْ جِهَةِ ذَاتِهِ، وَبَقَاءُ مَا يَدُومُ مِنْهُ عُلِمَ بِخَبَرِ الصَّادِقِ لَا مِنْ جِهَةِ اسْتِحَالَةِ فَنَائِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُنَا سِرٌّ دَقِيقٌ وَهُوَ أَنَّهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا نَظَرَ إِلَى الْمَقَامِ الْإِلَهِيِّ وَمُقَرَّبِي حَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ عَظَّمَ شَأْنَهُ وَفَخَّمَ مَنْزِلَتَهُ حَيْثُ ذَكَرَ النَّبِيِّينَ، وَعَرَّفَهَا بِلَامِ الِاسْتِغْرَاقِ، ثُمَّ خَصَّ مُحَمَّدًا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ بَيْنِهِمْ وَعَطَفَهُ عَلَيْهِمْ إِيذَانًا بِالتَّغَايُرِ، وَأَنَّهُ فَائِقٌ عَلَيْهِمْ بِأَوْصَافٍ مُخْتَصَّةٍ بِهِ، فَإِنَّ تَغَايُرَ الْوَصْفِ بِمَنْزِلَةِ التَّغَايُرِ فِي الذَّاتِ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِ اسْتِقْلَالًا بِأَنَّهُ حَقٌّ وَجَرَّدَهُ عَنْ ذَاتِهِ كَأَنَّهُ غَيْرُهُ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ تَصْدِيقَهُ، وَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ وَنَظَرَ إِلَى افْتِقَارِ نَفْسِهِ نَادَى بِلِسَانِ الِاضْطِرَارِ فِي مَطَاوِي الِانْكِسَارِ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ) انْقَدْتُ وَخَضَعْتُ لِأَمْرِكَ وَنَهْيِكَ (وَبِكَ آمَنْتُ) أَيْ صَدَّقْتُ (وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ) أَيْ فَوَّضْتُ أُمُورِي تَارِكًا النَّظَرَ فِي الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ (وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ) رَجَعَتْ إِلَيْكَ مُقْبِلًا بِقَلْبِي عَلَيْكَ (وَبِكَ) أَيْ بِمَا أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْبُرْهَانِ وَبِمَا لَقَّنْتَنِي مِنَ الْحُجَّةِ (خَاصَمْتُ) مَنْ خَاصَمَنِي مِنَ الْكُفَّارِ أَوْ بِتَأْيِيدِكَ وَنَصْرِكَ قَاتَلْتُ (وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ) كُلَّ مَنْ جَحَدَ الْحَقَّ وَمَا أَرْسَلْتَنِي بِهِ لَا إِلَى مَنْ كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَتَحَاكَمُ إِلَيْهِ مِنْ كَاهِنٍ وَنَحْوِهِ، وَقَدَّمَ جَمِيعَ صِلَاتِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ عَلَيْهَا إِشْعَارًا بِالتَّخْصِيصِ وَإِفَادَةً لِلْحَصْرِ، وَكَذَا قَوْلُهُ وَلَكَ الْحَمْدُ (فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ) قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ (وَأَخَّرْتُ) عَنْهُ (وَأَسْرَرْتُ) أَخْفَيْتُ (وَأَعْلَنْتُ) أَظْهَرْتُ، أَوْ مَا حَدَّثْتُ بِهِ نَفْسِي وَمَا تَحَرَّكَ بِهِ لِسَانِي، زَادَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: " وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي " وَهُوَ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ، وَقَالَ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ إِمَّا تَوَاضُعًا وَهَضْمًا لِنَفْسِهِ وَإِجْلَالًا وَتَعْظِيمًا لِرَبِّهِ، أَوْ تَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ لِيُقْتَدَى بِهِ، قَالَ الْحَافِظُ: كَذَا قِيلَ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ لِمَجْمُوعِ ذَلِكَ إِذْ لَوْ كَانَ لِلتَّعْلِيمِ فَقَطْ لَكَفَى فِيهِ أَمْرُهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا زَادَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ عَنْ طَاوُسٍ: أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَالْمُؤَخِّرُ، أَيِ الْمُقَدِّمِ لِي فِي الْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْمُؤَخِّرِ لِي فِي الْبَعْثِ فِي الدُّنْيَا.

(أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: " وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ " قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ ; لِأَنَّ لَفْظَ الْقَيِّمِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ وُجُودَ الْجَوَاهِرِ وَقِوَامَهَا مِنْهُ، وَالنُّورِ إِلَى أَنَّ الْأَعْرَاضَ أَيْضًا مِنْهُ، وَالْمُلْكِ إِلَى أَنَّهُ حَاكِمٌ عَلَيْهَا إِيجَادًا وَعَدَمًا يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ فَلِذَا قَرَنَ كُلًّا مِنْهَا بِالْحَمْدِ وَخَصَّصَ الْحَمْدَ بِهِ.

ثُمَّ قَوْلُهُ: أَنْتَ الْحَقُّ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَبْدَأِ، وَالْقَوْلُ وَنَحْوُهُ إِلَى الْمَعَاشِ، وَالسَّاعَةُ وَنَحْوُهَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَعَادِ، وَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى النُّبُوَّةِ، وَإِلَى الْجَزَاءِ ثَوَابًا وَعِقَابًا، وَوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِهِ وَالْإِسْلَامِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْإِنَابَةِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ، انْتَهَى.

وَفِيهِ زِيَادَةُ مَعْرِفَتِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِعَظَمَةِ رَبِّهِ وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَمُوَاظَبَتُهُ عَلَى الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ عَلَى رَبِّهِ، وَالِاعْتِرَافُ

<<  <  ج: ص:  >  >>