للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَا تَشْتَرِهِ) بِلَا يَاءٍ قَبْلَ الْهَاءِ جَزْمٌ عَلَى النَّهْيِ، وَلِابْنِ مَهْدِيٍّ: لَا تَبْتَعْهُ (وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ) مُبَالَغَةً فِي رُخْصِهِ وَهُوَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى شِرَائِهِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْبَائِعَ مَلَكَهُ وَلَوْ كَانَ وَقْفًا كَمَا قِيلَ، وَجَازَ لَهُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ فِيمَا حُبِسَ عَلَيْهِ لِمَا كَانَ لَهُ بَيْعُهُ إِلَّا بِالْقِيمَةِ الْوَافِرَةِ، وَلَا كَانَ لَهُ أَنْ يُسَامِحَ مِنْهَا بِشَيْءٍ وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الْمُحْبِسُ.

وَيُسْتَفَادُ مِنَ التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ مَثَلًا يُبَاعُ بِأَغْلَى مِنْ ثَمَنِهِ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّهْيُ كَذَا فِي الْفَتْحِ.

وَفِي رِوَايَةِ التِّنِّيسِيِّ: لَا تَشْتَرِهِ وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ.

وَعَلَيْهَا سَأَلَ ابْنُ الْمُنِيرِ أَنَّ الْأَغْيَاءَ فِي النَّهْيِ عَادَتُهُ أَنْ يَكُونَ بِالْأَخْفَى وَالْأَدْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: ٢٣] (سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: الْآيَةُ ٢٣) وَلَا خَفَاءَ أَنَّ إِعْطَاءَهُ إِيَّاهُ بِدِرْهَمٍ أَقْرَبُ إِلَى الرُّجُوعِ فِي الصَّدَقَةِ مِمَّا إِذَا بَاعَهُ بِقِيمَتِهِ، وَكَلَامُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْحُجَّةُ فِي الْفَصَاحَةِ، وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ: لَا تُغَلِّبُ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَإِنْ وَفَّرَهَا مُعْطِيهَا، فَإِذَا زَهِدَ فِيهَا وَهِيَ مُوَفَّرَةٌ فَلِأَنْ يَزْهَدَ فِيهَا وَهِيَ مُقَتَّرَةٌ أَوْلَى، فَهَذَا عَلَى وَفْقِ الْقَاعِدَةِ.

(فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ) الْفَاءُ لِلتَّعْلِيلِ؛ أَيْ: كَمَا يُقْبَحُ أَنْ يَقِيءَ ثُمَّ يَأْكُلُ، كَذَلِكَ يُقْبَحُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ ثُمَّ يَجُرُّهُ إِلَى نَفْسِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَشُبِّهَ بِأَخَسِّ الْحَيَوَانِ فِي أَخَسِّ أَحْوَالِهِ تَصْوِيرًا لِلتَّهْجِينِ وَتَنْفِيرًا مِنْهُ، وَبِهِ اسْتَدَلَّ عَلَى حُرْمَةِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَيْءَ حَرَامٌ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْكَلْبِ لَا يُوصَفُ بِتَحْرِيمٍ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ، فَالتَّشْبِيهُ لِلتَّنْفِيرِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْقَيْءَ مِمَّا يُسْتَقْذَرُ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ أَنَّهُ أَخْرَجَ فِي الصَّدَقَةِ أَوْسَاخَهُ وَأَدْنَاسَهُ، فَأَشْبَهَ تَغَيُّرَ الطَّعَامِ إِلَى حَالِ الْقَيْءِ، وَأَلْحَقَ بِالصَّدَقَةِ مَا شَابَهَهَا مِنْ كَفَّارَةٍ وَنَذْرٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْقُرُبَاتِ، وَبِالشِّرَاءِ الْهِبَةَ وَنَحْوَهَا مِمَّا يَتَمَلَّكُهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَأَمَّا إِذَا وَرِثَهُ فَلَا كَرَاهَةَ، وَأَبْعَدُ مَنْ قَالَ يَتَصَدَّقُ بِهِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: يَخُصُّ مِنْ عُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ وَهَبَ بِشَرْطِ الثَّوَابِ، وَوَالِدٌ وَهَبَ وَلَدَهُ، وَالْهِبَةُ الَّتِي لَمْ تُقْبَضْ وَالَّتِي رَدَّهَا الْمِيرَاثُ إِلَى الْوَاهِبِ لِثُبُوتِ الْأَخْبَارِ بِاسْتِثْنَاءِ كُلِّ ذَلِكَ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ كَالْغَنِيِّ يَهِبُ الْفَقِيرَ، وَنَحْوَ مَنْ يَصِلُ رَحِمَهُ فَلَا رُجُوعَ لِهَؤُلَاءِ، وَمِمَّا لَا رُجُوعَ فِيهِ مُطْلَقًا الصَّدَقَةُ يُرَادُ بِهَا ثَوَابُ الْآخِرَةِ، وَاسْتَشْكَلَ ذِكْرُ عُمَرَ لِذَلِكَ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إِذَاعَةِ عَمَلِ الْبِرِّ وَكِتْمَانِهِ أَرْجَحُ، وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ تَعَارَضَ عِنْدَهُ الْمَصْلَحَتَانِ؛ الْكِتْمَانُ وَتَبْلِيغُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، فَرَجَّحَ الثَّانِيَ فَعَمَلَ بِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: حَمَلَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى فَرَسٍ مَثَلًا، وَلَا يَقُولُ: حَمَلْتُ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ، قَالَ الْحَافِظُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَحَلَّ رُجْحَانِ الْكِتْمَانِ إِنَّمَا هُوَ قَبْلَ الْفِعْلِ وَعِنْدَهُ، وَأَمَّا بَعْدَ وُقُوعِهِ فَلَعَلَّ الَّذِي أُعْطِيَهُ أَذَاعَ ذَلِكَ فَانْتَفَى الْكِتْمَانُ، وَيُضَافُ إِلَيْهِ أَنَّ فِي إِضَافَةِ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ تَأْكِيدًا لِصِحَّةِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ الَّذِي تَقَعُ لَهُ الْقِصَّةُ أَجْدَرُ بِضَبْطِهَا مِمَّنْ لَيْسَ عِنْدَهُ إِلَّا وُقُوعُهَا بِحُضُورِهِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>