رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ لَمْ يَأْتِ قَوْلُهَا حَتَّى تُوُفِّيَ مِنْ وَجْهٍ يُحْتَجُّ بِهِ فَإِنَّمَا أَخَّرَتْ ذَلِكَ لِلرُّخْصَةِ وَالتَّوْسِعَةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ فِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " «إِنْ كَانَتْ إِحْدَانَا لَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا نَقْدِرُ أَنْ نَقْضِيَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَأْتِيَ شَعْبَانُ» "، وَلِذَا قَالَ عِيَاضٌ: هَذَا نَصٌّ مِنْهَا عَلَى عِلَّةِ ذَلِكَ، وَرُدَّ عَلَى مَنْ ضَعَّفَ التَّعْلِيلَ بِهِ، وَقَالَ: إِنَّمَا فَعَلَتْهُ لِلرُّخْصَةِ لَا لِلشُّغْلِ وَاسْتِشْكَالُهُ بِأَنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ وَيَعْدِلُ وَلَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ فَمَا تَأْتِي نَوْبَةُ الْوَاحِدَةِ إِلَّا بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، فَكَانَ يُمْكِنُ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَنْ تَقْضِيَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، أَجَابَ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ الْقَسْمَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَهُنَّ يَتَوَقَّعْنَ حَاجَتَهُ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَهِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " مَا قَضَيْتُ شَيْئًا مِمَّا يَكُونُ عَلَيَّ مِنْ رَمَضَانَ إِلَّا فِي شَعْبَانَ حَتَّى قُبِضَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "، وَالْبَهِيُّ صَدُوقٌ يُخْطِئُ، وَكَأَنَّهُ وَجَّهَ قَوْلِ أَبِي عُمَرَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ لَكِنْ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ، وَعَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: كَانَتْ لَا تَصُومُ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لِاحْتِمَالِ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهَا، وَإِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ أَذِنَ لَهَا، وَهُوَ لَا يُجْدِي لِأَنَّ احْتِمَالَ ذَلِكَ يُعْطِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَسْمُ.
وَفِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِلْجُمْهُورِ أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ إِذْ لَوْ مُنِعَ التَّأْخِيرُ لَمْ يُقِرَّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَأَوْجَبَهُ دَاوُدُ مِنْ ثَانِي شَوَّالٍ فَإِنْ أَخَّرَهُ أَثِمَ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ يُرَدُّ عَلَيْهِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ فَوْرًا فَالْمُبَادَرَةُ بِهِ مُسْتَحَبَّةٌ وَيُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ صَوْمِ النَّفْلِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَإِنَّمَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ فَإِنْ أَخَّرَهُ بِلَا عَزْمٍ عَصَى انْتَهَى.
وَنَسَبَ النَّوَوِيُّ هَذَا لِلْمُحَقَّقِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ وَقَالَ: إِنَّهُ الْأَصَحُّ، وَكَذَا سَائِرُ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ إِنَّمَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ بِشَرْطِ الْعَزْمِ، وَقِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ الْعَزْمُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ خُرُوجِ شَعْبَانَ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ فِي تَرِكَتِهِ إِنْ تَمَكَّنَ مِنَ الْقَضَاءِ فَلَمْ يَقْضِ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ فَلَا إِطْعَامَ انْتَهَى.
وَجَزَمَ الْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْعَزْمُ وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَجَزَمَ عَبْدُ الْوَهَّابِ وَغَيْرُهُ بِاشْتِرَاطِهِ، وَرَجَّحَهُ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ، وَفِيهِ أَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ مُقَدَّمٌ عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ مَا لَمْ يَكُنْ فَرْضًا مُضَيَّقًا، وَإِنَّ مَنَافِعَ الزَّوْجَةِ فِيمَا يَرْجِعُ لِلْمُتْعَةِ مُتَمَلَّكَةٌ لِلزَّوْجِ فِي عَامَّةِ الْأَحْوَالِ، وَحَقُّهَا فِي نَفْسِهَا مَقْصُورٌ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ قَالَهُ الْمَازِرِيُّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَهُوَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَسُفْيَانُ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ عِنْدَ مُسْلِمٍ الْخَمْسَةُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ سُفْيَانُ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ كَمَالِكٍ قَوْلَ يَحْيَى الشُّغْلُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute