الصَّلَاةِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " «وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ» "، ( «فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ» ) بِالْمُثَلَّثَةِ وَتَثْلِيثِ الْفَاءِ أَيْ لَا يُفْحِشْ وَيَتَكَلَّمْ بِالْكَلَامِ الْقَبِيحِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْجِمَاعِ وَمُقَدَّمَاتِهِ وَعَلَى ذِكْرِهِ مَعَ النِّسَاءِ أَوْ مُطْلَقًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّهْيَ لِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهَا.
(وَلَا يَجْهَلْ) أَيْ لَا يَفْعَلْ فِعْلَ الْجُهَّالِ كَصِيَاحٍ وَسَفَهٍ وَسُخْرِيَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " وَلَا يُجَادِلْ "، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَمْنُوعَةٌ مُطْلَقًا لَكِنَّهَا تَتَأَكَّدُ بِالصَّوْمِ، وَلِذَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا إِبَاحَةُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الصَّوْمِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ يَتَأَكَّدُ بِالصَّوْمِ.
قَالَ الْبَاجِيُّ: الْجَهْلُ ضِدُّ الْعِلْمِ يَتَعَدَّى بِغَيْرِ حَرْفِ جَرِّ، وَالْجَهْلُ ضِدُّ الْحِلْمِ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا
(فَإِنْ) بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَفِي رِوَايَةٍ: " وَإِنْ " بِالْوَاوِ، (امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ) ، قَالَ عِيَاضٌ: قَاتَلَهُ دَافَعَهُ وَنَازَعَهُ وَيَكُونُ بِمَعْنَى شَاتَمَهُ وَلَاعَنَهُ، وَقَدْ جَاءَ الْقَتْلُ بِمَعْنَى اللَّعْنِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ: فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ مَارَاهُ يَعْنِي جَادَلَهُ، وَلِأَحْمَدَ: فَإِنْ شَاتَمَكَ أَحَدٌ فَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ وَإِنْ كُنْتَ قَائِمًا فَاجْلِسْ، وَاسْتُشْكِلَ ظَاهِرُهُ بِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ تَقْتَضِي وُقُوعَ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مَعَ أَنَّ الصَّائِمَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَكُفَّ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَأَجَابَ الْبَاجِيُّ بِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ هُنَا لِلْوَاحِدِ كَسَافَرَ، أَوِ الْمَعْنَى: فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُشَاتِمَهُ أَوْ يُقَاتِلَهُ أَوْ إِنْ وُجِدَتْ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَلْيَذْكُرِ الصَّوْمَ وَلَا يَسْتَدِمْ ذَلِكَ.
وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُفَاعَلَةِ التَّهَيُّؤُ لَهَا أَيْ أَنْ يَتَهَيَّأَ أَحَدٌ لِقِتَالِهِ أَوْ مُشَاتَمَتِهِ.
(فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ) مَرَّتَيْنِ تَأْكِيدًا لِلِانْزِجَارِ مِنْهُ أَوْ مِمَّنْ يُخَاطِبُهُ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قِيلَ: يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ لِلْمُشَاتِمِ وَالْمُقَاتِلِ أَيْ وَصَوْمِي يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ، وَمَعْنَى الْمُقَاتِلَةِ مُقَاتَلَتُهُ بِلِسَانِهِ، وَقِيلَ: يَقُولُهُ فِي نَفْسِهِ أَيْ فَلَا سَبِيلَ إِلَى شِفَاءِ غَيْظِكَ، وَلَا يَنْطِقُ بِأَنِّي صَائِمٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّيَاءِ وَإِطْلَاعِ النَّاسِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الصَّوْمَ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي لَا يَظْهَرُ، وَلِذَا يَجْزِي اللَّهُ الصَّائِمَ أَجْرَهُ بِغَيْرِ حِسَابٍ انْتَهَى.
وَبِالثَّانِي جَزَمَ الْمُتَوَلِّي وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنِ الْأَئِمَّةِ، وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ الْأَوَّلَ فِي الْأَذْكَارِ، وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذِّبِ: كُلٌّ مِنْهُمَا حَسَنٌ وَالْقَوْلُ بِاللِّسَانِ أَقْوَى وَلَوْ جَمَعَهُمَا كَانَ حَسَنًا، وَنَقَلَ الزَّرْكَشِيُّ: إِنَّ ذِكْرَهَا فِي الْحَدِيثِ مَرَّتَيْنِ إِشَارَةٌ لِذَلِكَ فَيَقُولُهَا بِقَلْبِهِ لِيَكُفَّ نَفْسَهُ وَبِلِسَانِهِ لِيَكُفَّ خَصْمَهُ، وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: إِنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ فَبِلِسَانِهِ وَإِلَّا فَفِي نَفْسِهِ
وَادَّعَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي النَّفْلِ أَمَّا الْفَرْضُ فَبِلِسَانِهِ قَطْعًا، وَقَالَ فِي الْمَصَابِيحِ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ عِلَّةٌ لِتَأْكِيدِ الْمَنْعِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لِخَصْمِهِ: إِنِّي صَائِمٌ تَحْذِيرًا وَتَهْدِيدًا بِالْوَعِيدِ الْمُتَوَجِّهِ عَلَى مَنِ انْتَهَكَ حُرْمَةَ الصَّائِمِ، وَتَذَرَّعَ إِلَى تَنْقِيصِ أَجْرِهِ بِإِيقَاعِهِ فِي الْمُشَاتَمَةِ أَوْ بِذِكْرِ نَفْسِهِ تَشْدِيدَ الْمَنْعِ الْمُعَلَّلِ