للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

كُتُبَهُمْ جَامِعَةٌ لِلْوُجُوهِ الْمَشْهُورَةِ وَالْغَرِيبَةِ، وَمَعَ أَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَشْهُورَةٌ فِي الصَّحِيحِ بَلْ جَزَمُوا بِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الرِّضَا وَالْقَبُولِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا هُوَ ثَابِتٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَأَمَّا ذِكْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ فَلِأَنَّهُ يَوْمُ الْجَزَاءِ، وَفِيهِ يَظْهَرُ رُجْحَانُ الْخُلُوفِ فِي الْمِيزَانِ عَلَى الْمِسْكِ الْمُسْتَعْمَلِ لِدَفْعِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ طَلَبًا لِرِضَا اللَّهِ حَيْثُ يُؤْمَرُ بِاجْتِنَابِهَا، وَاجْتِلَابُ الرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ كَمَا فِي الْمَسَاجِدِ وَالصَّلَوَاتِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَخُصَّ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فِي رِوَايَةٍ لِذَلِكَ كَمَا خُصَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات: ١١] (سُورَةُ الْعَادِيَاتِ: الْآيَةُ ١١) ، وَأُطْلِقَ فِي بَاقِي الرِّوَايَاتِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ أَصْلَ أَفْضَلِيَّتِهِ ثَابِتٌ فِي الدَّارَيْنِ انْتَهَى.

وَهَذِهِ إِحْدَى الْمَسَائِلِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْمُتَعَاصِرَانِ الْمَذْكُورَانِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالْعِزُّ، وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ اسْتِطَابَةَ الرَّوَائِحِ مِنْ صِفَاتِ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَهُ طَبْعٌ يَمِيلُ إِلَى الشَّيْءِ فَيَسْتَطِيبُهُ أَوْ يَنْفِرُ عَنْهُ فَيَسْتَقْذِرُهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْمَازِرِيُّ: هُوَ مَجَازٌ لِأَنَّهُ جَرَتِ الْعَادَةُ بِتَقْرِيبِ الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ مِنَّا فَاسْتُعِيرَ ذَلِكَ لِتَقْرِيبِ الصَّوْمِ مِنَ اللَّهِ، فَالْمَعْنَى أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ عِنْدَكُمْ أَيْ يُقَرِّبُ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ تَقْرِيبِ الْمِسْكِ إِلَيْكُمْ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ حُكْمَ الْخُلُوفِ وَالْمِسْكِ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى ضِدِّ مَا هُوَ عِنْدَكُمْ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ فِي الْآخِرَةِ حَتَّى تَكُونَ نَكْهَتُهُ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ كَمَا يَأْتِي الْمَكْلُومُ وَرِيحُ جُرْحِهِ يَفُوحُ مِسْكًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ صَاحِبَهُ يَنَالُ مِنَ الثَّوَابِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لَاسِيَّمَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْخُلُوفِ حَكَاهُمَا عِيَاضٌ.

وَقَالَ الدَّاوُدُيُّ وَجَمَاعَةٌ: الْمَعْنَى أَنَّ الْخُلُوفَ أَكْثَرُ ثَوَابًا مِنَ الْمِسْكِ الْمَنْدُوبِ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَمَجَالِسِ الذِّكْرِ وَالْخَيْرِ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ، وَحَاصِلُهُ حَمْلُ مَعْنَى الطِّيبِ عَلَى الْقَبُولِ وَالرِّضَا.

وَنَقَلَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ أَنَّ لِلطَّاعَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِيحًا يَفُوحُ قَالَ: فَرِيحُ الصِّيَامِ فِيهَا بَيْنَ الْعِبَادَاتِ كَالْمِسْكِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَطْيَبُ عِنْدَ مَلَائِكَةِ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ يَسْتَطِيبُونَ الْخُلُوفَ، أَكْثَرُ مَنْ كَانَ عِنْدَنَا بِصَدَدِ ذَلِكَ.

وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَيْ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ إِذْ هُوَ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِالشَّمِّ.

وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَكِنَّهُ يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِدْرَاكِ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْمُدْرَكَاتِ الْمَحْسُوسَاتِ يَعْلَمُهَا تَعَالَى عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ خَالِقُهَا أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ؟ وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ كَانَ أَطْيَبَ وَدَمُ الشَّهِيدِ رِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْمُخَاطَرَةِ بِالنَّفْسِ وَبَذْلِ الرُّوحِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الصَّوْمَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْجِهَادِ، أَوْ نَظَرًا إِلَى أَصْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَأَصْلُ الْخُلُوفِ طَاهِرٌ بِخِلَافِ الدَّمِ، فَكَانَ مَا أَصْلُهُ طَاهِرٌ أَطْيَبَ رِيحًا، وَبِأَنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَالصَّوْمُ فَرْضُ عَيْنٍ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْكِفَايَةِ.

وَرَوَى أَحْمَدُ مَرْفُوعًا: " «دِينَارٌ تُنْفِقُهُ عَلَى أَهْلِكَ وَدِينَارٍ تُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُهُمَا الَّذِي تُنْفِقُهُ عَلَى أَهْلِكَ» "، فَفَضَّلَ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَهْلِ لِأَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى النَّفَقَةِ فِي الْجِهَادِ لِأَنَّهُ كِفَايَةٌ.

وَلَا يُعَارِضُهُ مَا رَوَاهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>