للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَصِيَامٍ وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا وَأَخَذَ مَالَ هَذَا فَيُؤْخَذُ لِهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَلِهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْتَصَّ مَا عَلَيْهِ طُرِحَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُهُمْ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» .

قُلْتُ: إِنْ ثَبَتَ قَوْلُ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَمْكَنَ تَخْصِيصُ الصِّيَامِ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ يَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: " «كُلُّ الْعَمَلِ كَفَّارَةٌ إِلَّا الصَّوْمَ الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِ: " «قَالَ رَبُّكُمْ: كُلُّ الْعَمَلِ كَفَّارَةٌ إِلَّا الصَّوْمَ» " فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ شَاهِدٌ لِذَلِكَ، لَكِنْ يُعَارِضُهُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: " «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ» "، وَيُجَابُ بِحَمْلِ الْإِثْبَاتِ عَلَى كَفَّارَةِ شَيْءٍ مَخْصُوصٍ، وَالنَّفْيِ عَلَى كَفَّارَةِ شَيْءٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِفِتْنَةِ الْمَالِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ لَكِنْ حَمَلَهُ الْبُخَارِيُّ عَلَى تَكْفِيرِ مُطْلَقِ الْخَطِيئَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي مُسْلِمٍ: " «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» "، وَلِابْنِ حِبَّانَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَعَرَفَ حُدُودَهُ كَفَّرَ مَا قَبْلَهُ» "، وَلِمُسْلِمٍ: " «صِيَامُ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ وَصِيَامُ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سَنَةً» "، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: " «كُلُّ الْعَمَلِ كَفَّارَةٌ إِلَّا الصِّيَامُ» " أَيْ فَإِنَّهُ كَفَّارَةٌ وَزِيَادَةُ ثَوَابٍ عَلَى الْكَفَّارَةِ بِشَرْطِ خُلُوصِهِ مِنَ الرِّيَاءِ وَالشَّوَائِبِ.

عَاشِرُهَا: أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَظْهَرُ فَتَكْتُبُهُ الْحَفَظَةُ كَمَا لَا تُكْتَبُ سَائِرُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَاسْتَنَدَ قَائِلُهُ إِلَى حَدِيثٍ وَاهٍ جِدًّا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْمُسَلْسَلَاتِ وَلَفْظُهُ: قَالَ اللَّهُ الْإِخْلَاصُ سِرٌّ مِنْ سِرِّي اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أُحِبُّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكْتُبَهُ وَلَا شَيْطَانٌ فَيُفْسِدَهُ.

وَيَكْفِي فِي رَدِّهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي كِتَابِهِ: " «الْحَسَنَةُ لِمَنْ هَمَّ بِهَا وَلَمْ يَعْمَلْهَا» "، فَهَذَا مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَجْوِبَةِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى الصَّوَابِ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَيَقْرُبُ مِنْهُمَا الثَّامِنُ وَالتَّاسِعُ.

وَبَلَغَنِي أَنَّ الطَّالِقَانِيَّ بَلَّغَهَا أَكْثَرَ فِي حَظَائِرِ الْقُدْسِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَقَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: مَعْنَاهُ أَنَّ الصَّوْمَ لِي لَا لَكَ، أَيْ أَنَا الَّذِي يَنْبَغِي لِي أَنْ لَا أَطْعَمَ وَلَا أَشْرَبَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَكَانَ دُخُولُكُ فِيهِ لِأَنِّي شَرَعْتُهُ لَكَ فَأَنَا أَجْزِي بِهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَنَا جَزَاؤُهُ لِأَنَّ صِفَةَ التَّنْزِيهِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ تَطْلُبُنِي، وَقَدْ تَلَبَّسْتَ بِهَا وَلَيْسَتْ لَكَ لَكِنَّكَ اتَّصَفْتَ بِهَا حَالَ صَوْمِكَ فَهِيَ تُدْخِلُكَ عَلَيَّ، فَإِنَّ الصَّبْرَ حَبْسُ النَّفْسِ وَقَدْ حَبَسْتَهَا بِأَمْرِي عَمَّا تَقْتَضِيهِ، وَحَقِيقَتُهَا مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ، فَلِذَا قَالَ «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ» ، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

وَفَرْحَةُ الْفِطْرِ لِرُوحِهِ الْحَيَوَانِيِّ لَا غَيْرَ، وَالثَّانِيَةُ لِنَفْسِهِ النَّاطِقَةِ لَطِيفَةٌ رَبَّانِيَّةٌ فَأَوْرَثَهُ الصَّوْمُ لِقَاءَ اللَّهِ وَهُوَ الْمُشَاهَدَةُ انْتَهَى، وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ.

وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ لَكِنَّهُ وَصَلَهُ بِالْحَدِيثِ قَبْلَهُ لِاتِّحَادِ إِسْنَادِهِمَا وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَانِعَ مِنْهُ كَمَا قَدَّمْتُهُ عَنِ الْحَافِظِ لَكِنَّهُ قَالَ هُنَا هُمَا حَدِيثَانِ أَفْرَدَهُمَا الْمُوَطَّأُ وَجَمَعَهُمَا عَنْهُ الْقَعْنَبِيُّ وَعَنْهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا انْتَهَى.

وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>