وَبِهِ يُتَعَقَّبُ قَوْلُ فَتْحِ الْبَارِي: إِنَّهُ مُرْسَلٌ عَنْ عَمْرَةَ فِي الْمُوطَآتِ كُلِّهَا، (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ) فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، وَلَهُمَا عَنْ عَائِشَةَ: " فَكُنْتُ أَضْرِبُ لَهُ خِبَاءً "، (فَلَمَّا انْصَرَفَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ) وَهُوَ الْخِبَاءُ، (وَجَدَ أَخْبِيَةً) ثَلَاثَةً، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: " «فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنَ الْغَدَاةِ أَبْصَرَ أَرْبَعَ قِبَابٍ» " يَعْنِي قُبَّةً لَهُ وَثَلَاثَةً لِلثَّلَاثَةِ، (خِبَاءَ عَائِشَةَ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مَمْدُودٍ، أَيْ خَيْمَةً مِنْ وَبَرٍ أَوْ صُوفٍ عَلَى عَمُودَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، (وَخِبَاءَ حَفْصَةَ) ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: " فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ فَأَذِنَ لَهَا فَسَأَلَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَسْتَأْذِنَ لَهَا فَفَعَلَتْ "، وَلَهُ فِي أُخْرَى: " فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ أَنْ تَعْتَكِفَ فَأَذِنَ لَهَا فَضَرَبَتْ قُبَّةً فَسَمِعَتْ بِهَا حَفْصَةُ فَضَرَبَتْ قُبَّةً لِتَعْتَكِفَ مَعَهُ "، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهَا ضَرَبَتْهَا بِلَا إِذْنٍ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ.
فَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: ثُمَّ اسْتَأْذَنَتْهُ حَفْصَةُ فَأَذِنَ لَهَا، وَظَهَرَ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ اسْتِئْذَانَهَا كَانَ عَلَى لِسَانِ عَائِشَةَ.
(وَخِبَاءَ زَيْنَبَ) بِنْتِ جَحْشٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: " فَلَمَّا رَأَتْهُ زَيْنَبُ ضَرَبَتْ لَهَا خِبَاءً آخَرَ "، وَلَهُ فِي أُخْرَى: " وَسَمِعَتْ بِهَا زَيْنَبُ فَضَرَبَتْ قُبَّةً أُخْرَى "، وَعِنْدَ أَبِي عِوَانَةَ: " فَلَمَّا رَأَتْهُ زَيْنَبُ ضَرَبَتْ مَعَهُنَّ، وَكَانَتِ امْرَأَةً غَيُورًا "، قَالَ الْحَافِظُ: وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَلَى أَنَّ زَيْنَبَ اسْتَأْذَنَتْ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ أَحَدُ مَا بَعَثَ عَلَى الْإِنْكَارِ الْآتِي، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ: " فَأَمَرَتْ زَيْنَبُ بِخِبَائِهَا فَضُرِبَ، وَأَمَرَ غَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِبَائِهَا فَضُرِبَ "، وَهَذَا يَقْتَضِي تَعْمِيمَ الْأَزْوَاجِ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ لِتَفْسِيرِهَا فِي الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى بِالثَّلَاثَةِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: " أَرْبَعَ قِبَابٍ "، وَلِلنَّسَائِيِّ إِذَا هُوَ بِأَرْبَعَةِ أَبْنِيَةٍ.
(فَلَمَّا رَآهَا سَأَلَ عَنْهَا فَقِيلَ لَهُ: هَذَا خِبَاءُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آلْبِرَّ) بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ مَمْدُودَةٍ وَبِغَيْرِ مَدٍّ وَالنَّصْبِ، مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ لِقَوْلِهِ: (تَقُولُونَ) أَيْ تَظُنُّونَ، وَالْقَوْلُ يُطْلَقُ عَلَى الظَّنِّ، قَالَ الْأَعْشَى:
أَمَّا الرَّحِيلُ فَدُونَ بَعْدَ غَدٍ ... فَمَتَى تَقُولُ الدَّارُ تَجْمَعُنَا
(بِهِنَّ) أَيْ مُلْتَبِسًا بِهِنَّ، وَهُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِيَقُولُونَ، وَالْخِطَابُ لِلْحَاضِرِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ: آلْبِرَّ يَرَوْنَ (ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ) ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ الْوَاوِ ثَقِيلَةٍ فَضَادٍ مُعْجَمَةٍ أَيْ نُقِضَ.
قَالَ عِيَاضٌ: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْكَلَامَ إِنْكَارًا لِفِعْلِهِنَّ، وَقَدْ كَانَ أَذِنَ لِبَعْضِهِنَّ فِي ذَلِكَ، وَسَبَبُ إِنْكَارِهِ أَنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُنَّ غَيْرَ مُخْلِصَاتٍ فِي الِاعْتِكَافِ، بَلْ أَرَدْنَ الْقُرْبَ مِنْهُ لِغَيْرَتِهِنَّ عَلَيْهِ أَوْ لِغَيْرَتِهِ عَلَيْهِنَّ فَكَرِهَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute