ثُمَّ إِنَّ الْإِمَامَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مُقْتَصِرًا عَلَيْهَا كَأَكْثَرِ الْمُتَقَدِّمِينَ دُونَ الْحَمْدِ وَالشَّهَادَةِ مَعَ وُرُودِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ أَقْطَعُ» "، وَقَوْلِهِ: " «كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا شَهَادَةٌ فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ» " أَخْرَجَهُمَا أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ الْحَافِظُ: لِأَنَّ الْحَدِيثَيْنِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَقَالٌ سَلَّمْنَا صَلَاحِيَتَهُمَا لِلْحُجَّةِ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِمَا أَنَّ ذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ بِالنُّطْقِ وَالْكِتَابَةِ مَعًا، فَلَعَلَّهُ حَمِدَ وَتَشَهَّدَ نُطْقًا عِنْدَ وَضْعِ الْكِتَابِ وَلَمْ يَكْتُبْ ذَلِكَ اقْتِصَارًا عَلَى الْبَسْمَلَةِ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَجْمَعُ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ ذِكْرُ اللَّهِ وَقَدْ حَصَلَ بِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: ١] [سُورَةُ الْعَلَقِ: الْآيَةُ ١] فَطَرِيقُ التَّأَسِّي بِهِ الِافْتِتَاحُ بِالْبَسْمَلَةِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا. وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا وُقُوعُ كُتُبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُلُوكِ، وَكُتُبِهِ فِي الْقَضَايَا مُفْتَتَحَةً بِالتَّسْمِيَةِ دُونَ حَمْدَلَةٍ وَغَيْرِهَا كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ، وَحَدِيثِ الْبَرَاءِ فِي قِصَّةِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، قَالَ: وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ لَفْظَ الْحَمْدِ وَالشَّهَادَةِ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْخُطَبِ دُونَ الرَّسَائِلِ وَالْوَثَائِقِ، فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّا لَمْ يَفْتَتِحُ بِخُطْبَةٍ أَجْرَاهُ مَجْرَى الرَّسَائِلِ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ لِيَنْتَفِعُوا بِمَا فِيهِ تَعَلُّمًا وَتَعْلِيمًا. وَأُجِيبُ أَيْضًا بِأَنَّهُ تَعَارَضَ عِنْدَهُ الِابْتِدَاءُ بِالتَّسْمِيَةِ أَوِ الْحَمْدِ، فَلَوِ ابْتَدَأَ بِالْحَمْدِ لَخَالَفَ الْعَادَةَ أَوِ الْبَسْمَلَةَ لَمْ يَعُدْ مُبْتَدِيًا بِالْحَمْدَلَةِ فَاكْتَفَى بِالتَّسْمِيَةِ. وَتَعَقَّبَ بِأَنَّهُ لَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا لَكَانَ مُبْتَدِيًا بِالْحَمْدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا بَعْدَ التَّسْمِيَةِ، وَهَذِهِ هِيَ النُّكْتَةُ فِي حَذْفِ الْوَاوِ فَيَكُونُ أَوْلَى لِمُوَافَقَةِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ افْتَتَحُوا كِتَابَتَهُمْ فِي الْإِمَامِ الْكَبِيرِ بِالتَّسْمِيَةِ ثُمَّ الْحَمْدِ تِلْوَهَا، وَتَبِعَهُمْ جَمِيعُ مَنْ كَتَبَ الْمُصْحَفَ بَعْدَهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَمَنْ لَا يَقُولُ بِذَلِكَ. وَأُجِيبُ أَيْضًا بِأَنَّهُ رَاعَى قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: ١] (سُورَةُ الْحُجُرَاتِ: الْآيَةُ ١) فَلَمْ يُقَدِّمْ عَلَى كَلَامِ رَسُولِهِ شَيْئًا وَاكْتَفَى بِهِ عَنْ كَلَامِ نَفْسِهِ وَتَعَقَّبَ بِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِلَفْظِ الْحَمْدِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَيْضًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute