قَبْلَ مُعَاوَدَتِهِ لِلْأُخْرَى، وَأَيُّ طِيبٍ يَبْقَى بَعْدَ اغْتِسَالَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَيَكُونُ قَوْلُهَا: ثُمَّ أَصْبَحَ يَنْضَخُ طِيبًا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ قَبْلَ غُسْلِهِ وَإِحْرَامِهِ.
وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: " ثُمَّ «أَصْبَحَ مُحْرِمًا يَنْضَخُ طِيبًا» " أَيْ يُصْبِحُ بِنِيَّةِ الْإِحْرَامِ، فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ يَنْضَخُ طِيبًا ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا.
وَفِي مُسْلِمٍ أَيْ وَالْبُخَارِيِّ أَنَّ الطِّيبَ الَّذِي طَيَّبَتْهُ بِهِ زُرَيْرَةٌ، وَهِيَ مِمَّا يُذْهِبُهَا الْغُسْلُ وَلَا يَبْقَى رِيحُهَا بَعْدَهُ، وَقَوْلُهَا: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ الْمُرَادُ أَثَرُهُ لَا جِرْمُهُ. انْتَهَى بِمَعْنَاهُ.
وَرَدَّ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ تَأْوِيلٌ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ بِلَا دَلِيلٍ عَجِيبٍ، فَإِنَّ عِيَاضًا ذَكَرَ دَلِيلَ التَّأْوِيلِ كَمَا تَرَى.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ عَيْنَهُ بَقِيَتْ، وَتُعُقِّبَ بِمَا لِأَبِي دَاوُدَ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ: " «كُنَّا نَنْضَخُ وُجُوهَنَا بِالْمِسْكِ الْمُطَيَّبِ قَبْلَ أَنْ نُحْرِمَ فَنَعْرَقُ فَيَسِيلُ عَلَى وُجُوهِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَنْهَانَا» "، فَهَذَا صَرِيحٌ فِي بَقَاءِ عَيْنِ الطِّيبِ، وَلَا صَرَاحَةَ فِيهِ لِأَنَّهُنَّ اغْتَسَلْنَ وَالْغُسْلُ يُذْهِبُ عَيْنَهُ، وَمَنْشَأُ هَذَا الْخِلَافِ اللَّامُ فِي " لِإِحْرَامِهِ " وَ " لِحِلِّهِ " هَلْ هِيَ لِلتَّأْقِيتِ؟ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ وَافَقَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: ٧٨] (سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: الْآيَةُ ٧٨) ، أَوْ لِلتَّعْلِيلِ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَأَبْطَلَهُ فِي الْمُفْهِمِ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لَهُ لَكَانَ الْحِلُّ وَالْإِحْرَامُ عِلَّتَيْنِ لِلتَّطَيُّبِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ خِلَافُ مَقْصُودِ الشَّرْعِ مِنَ الْمُحْرِمِ قَطْعًا.
وَذَهَبَ الْبَاجِيُّ وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الطِّيبَ لِلْإِحْرَامِ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلِقَاءِ الْمَلَائِكَةِ، وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ إِنَّمَا مُنِعَ مِنَ الطِّيبِ لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِي النِّكَاحِ، فَنَهَى النَّاسَ عَنْهُ وَكَانَ هُوَ أَمْلَكُ النَّاسِ لِإِرْبِهِ فَفَعَلَهُ، وَرَجَّحَهُ بَعْضُهُمْ بِكَثْرَةِ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنَ الْخَصَائِصِ فِي النِّكَاحِ، وَقَدْ قَالَ: " «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ» " أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْخَصَائِصَ لَا تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّا لَمْ نُثْبِتْهَا بِالْقِيَاسِ بَلْ بِمُخَالَفَةِ فِعْلِهِ لِنَهْيِهِ عَنِ الطِّيبِ، فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْخُصُوصِيَّةِ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَا الْقِيَاسَ سَنَدًا لِلِاسْتِدْلَالِ.
وَأَيَّدَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ التَّخْصِيصَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلنَّاسِ عَامَّةً مَا جَهِلَهُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَابْنُ عُمَرَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِالْمَنَاسِكِ وَغَيْرِهَا وَجَلَالَتِهِمْ فِي الصَّحَابَةِ، وَمَوْضِعُ عَطَاءٍ مَنْ عَلْمِ الْمَنَاسِكِ مَوْضِعُهُ، وَمَوْضِعُ الزُّهْرِيِّ مِنْ عَلْمِ الْأَثَرِ مَوْضِعُهُ، وَفِيهِ إِبَاحَةُ الطِّيبِ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ وَالْحَلْقِ وَقَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَقَالَهُ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ إِلَّا أَنَّ مَالِكًا كَرِهَهُ قَبْلَ الْإِفَاضَةِ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ الْأَرْبَعَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَمَنْصُورُ بْنُ زَاذَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَعُبَيْدُ اللَّهِ وَاللَّيْثُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ كُلُّهُمْ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute