نَعَمْ، قُلْتُ: فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ؟ قَالَ: إِنَّ قَوْمَكِ قَصُرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ، قُلْتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ، لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا، وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا» " زَادَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: " «فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا، يَدَعُونَهُ يَرْتَقِي، حَتَّى إِذَا كَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا دَفَعُوهُ، فَسَقَطَ» "، أَيْ قَصُرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ الطَّيِّبَةُ الَّتِي أَخْرَجُوهَا لِبِنَائِهِ، كَمَا جَزَمَ بِهِ الْأَزْرَقِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَيُوَضِّحُهُ مَا لِابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ، أَنَّ أَبَا وَهَبِ بْنِ عَايِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ، قَالَ لِقُرَيْشٍ: لَا تُدْخِلُوا مِنْ كَسْبِكُمْ إِلَّا طَيِّبًا، وَلَا تُدْخِلُوا فِيهِ مَهْرَ بَغِيٍّ، وَلَا بَيْعَ رِبًا، وَلَا مَظْلَمَةَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَعِنْدَ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: لَا تَجْعَلُوا فِيهَا مَالًا أُخِذَ غَصْبًا، وَلَا قُطِعَتْ فِيهِ رَحِمٌ، وَلَا انْتُهِكَتْ فِيهِ حُرْمَةٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ: لَا تُدْخِلُوا فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ إِلَّا طَيِّبَ أَمْوَالِكُمْ، وَتَجَنَّبُوا الْخَبِيثَ فَإِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، فَلَعَلَّهُمَا جَمِيعًا قَالَا ذَلِكَ.
وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي جَامِعِهِ: " أَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى شَيْخٍ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ، فَسَأَلَهُ عَنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا تَقَرَّبَتْ لِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ، أَيْ بِالنَّفَقَةِ الطَّيِّبَةِ فَعَجَزَتْ، فَتَرَكُوا بَعْضَ الْبَيْتِ فِي الْحِجْرِ، فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ ".
(قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟) أَيْ أُسُسِهِ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: لَوْلَا حِدْثَانُ) بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ، فَأَلِفٍ فَنُونٍ، مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ وُجُوبًا، أَيْ مَوْجُودٌ يَعْنِي قُرْبَ عَهْدِ (قَوْمِكَ بِالْكُفْرِ، لَفَعَلْتُ) أَيْ: لَرَدَدْتُهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ: " «لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالْأَرْضِ وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ: بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ» "، وَفِيهِ تَرْكُ مَا هُوَ صَوَابٌ خَوْفَ وُقُوعِ مَفْسَدَةٍ أَشَدَّ، وَاسْتِئْلَافُ النَّاسِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَاجْتِنَابُ وَلِيِّ الْأَمْرِ مَا يَتَسَارَعُ النَّاسُ إِلَى إِنْكَارِهِ، وَمَا يُخْشَى مِنْهُ تَوَلُّدُ الضَّرَرِ عَلَيْهِمْ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا، وَتَأَلُّفَ قُلُوبِهِمْ بِمَا لَا يُتْرَكُ فِيهِ أَمْرٌ وَاجِبٌ، كَمُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى تَرْكِ الزَّكَاةِ وَشِبْهِ ذَلِكَ، وَفِيهِ تَقْدِيمُ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ مِنْ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ، وَجَلْبِ الْمَصْلَحَةِ، وَأَنَّهُمَا إِذَا تَعَارَضَا بُدِئَ بِرَفْعِ الْمَفْسَدَةِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ مَعَ أَهْلِهِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ، وَفِيهِ سَدُّ الذَّرَائِعِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ: " «أَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجِدَارَ فِي الْبَيْتِ، وَأَنْ أَلْصَقَ بَابَهُ إِلَى الْأَرْضِ» "، وَفِي رِوَايَةٍ: " تَنْفِرُ " الْفَاءُ بَدَلَ الْكَافِ.
وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ النَّفْرَةَ الَّتِي خَشِيَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَنْسِبُوهُ إِلَى الِانْفِرَادِ بِالْفَخْرِ دُونَهُمْ.
وَفِيهِ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ إِذَا أَمِنَ وُقُوعَهَا، عَادَ اسْتِحْبَابُ الْمَصْلَحَةِ.
وَفِي مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ: " «سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدِهِمْ بِكُفْرٍ، وَلَيْسَ عِنْدِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يُقَوِّينِي عَلَى بِنَائِهِ، لَكُنْتُ أَدْخَلْتُ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ» ، قَالَ: أَيْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: فَأَنَا أَجِدُ مَا أُنْفِقَ وَلَسْتُ