فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي سَنَةِ عَشْرٍ، فَهُوَ نَاسِخٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ سَنَةَ سَبْعٍ، وَكَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ فِي الْبَدَنِ، فَرَمَلُوا إِظْهَارًا لِلْقُوَّةِ، وَاحْتَاجُوا إِلَى ذَلِكَ فِيمَا عَدَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا جُلُوسًا فِي الْحِجْرِ فَلَا يَرَوْنَهُمْ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا حَجَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ عَشْرٍ رَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ، فَوَجَبَ الْأَخْذُ بِهِ لِأَنَّهُ الْآخِرُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَحَدِيثُ الْبَابِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَيَحْيَى عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ بِلَفْظِ: " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَلَ الثَّلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ» " (قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ) أَيِ اسْتَمَرَّ (عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا) ، وَبِهِ قَالَ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَأَتْبَاعِهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا ابْنُ عَبَّاسٍ.
فَفِي مُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ: «قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ هَذَا الرَّمَلَ بِالْبَيْتِ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، وَمَشْيَ أَرْبَعَةٍ أَسُنَّةٌ هُوَ؟ فَإِنَّ قَوْمَكَ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا سُنَّةٌ، قَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا، قُلْتُ: مَا قَوْلُكَ صَدَقُوا وَكَذَبُوا؟ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِمَ مَكَّةَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ مِنَ الْهُزَالِ، وَكَانُوا يَحْسُدُونَهُ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثًا، وَيَمْشُوا أَرْبَعًا» ، أَيْ صَدَقُوا فِي أَنَّ الْمُصْطَفَى فَعَلَهُ، وَكَذَبُوا فِي أَنَّهُ سُنَّةٌ مَقْصُودَةٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ سُنَّةً مَطْلُوبَةً عَلَى تَكَرُّرِ السِّنِينَ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِهِ تِلْكَ السَّنَةَ لِإِظْهَارِ الْقُوَّةِ لِلْكُفَّارِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى "، هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ.
وَكَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَحَظَ هَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: " «مَا لَنَا وَالْمُرْمِلَ إِنَّمَا كُنَّا رَأَيْنَا الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ شَيْءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ» "، زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: " ثُمَّ رَمَلَ فَهَمَّ بِتَرْكِهِ لِفَقْدِ سَبَبِهِ، ثُمَّ رَجَعَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَهُ حِكْمَةٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا فَرَأَى الِاتِّبَاعَ أَوْلَى "، وَقَدْ يَكُونُ فِعْلُهُ بَاعِثًا عَلَى تَذَكُّرِ سَبَبِهِ فَيَذْكُرُ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِعْزَازِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، ثُمَّ لَا يُشَكِّلُ قَوْلُهُ رَأْيَنَا، مَعَ أَنَّ الرُّؤْيَا بِالْعَمَلِ مَذْمُومٌ لِأَنَّ صُورَتَهُ، وَإِنْ كَانَتْ صُورَةَ الرِّيَاءِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ مَذْمُومَةً؛ لِأَنَّ الْمَذْمُومَ أَنْ يُظْهِرَ الْعَمَلَ، لِيُقَالَ: إِنَّهُ عَامِلٌ، وَلَا يَعْمَلُهُ إِذَا لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ، وَمَا وَقَعَ لَهُمْ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الْمُخَادَعَةِ فِي الْحَرْبِ، لِأَنَّهُمْ أَوْهَمُوا الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ أَقْوِيَاءٌ، لِئَلَّا يَطْمَعُوا فِيهِمْ، وَقَدْ صَحَّ: الْحَرْبُ خُدْعَةٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute