الْإِثْمِ عَنِ التَّارِكِ، وَذَلِكَ حَقِيقَةُ الْمُبَاحِ، أَمَّا وَلَفْظُهَا بِدُونِ لَا، فَهِيَ سَاكِتَةٌ عَنِ الْوُجُوبِ وَعَدَمِهِ مُصَرِّحَةٌ بِعَدَمِ الْإِثْمِ عَنِ الْفَاعِلِ، وَحِكْمَتُهُ مُطَابِقَةٌ جَوَابَ السَّائِلِينَ، لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا مِنْ فِعْلِهِمْ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ لَا يَسْتَمِرَّ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ، فَجَاءَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِسُؤَالِهِمْ، وَأَمَّا الْوُجُوبُ فَمُسْتَفَادٌ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخَرَ كَفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ وَمُوَاظَبَتِهِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ نُسُكٍ مَعَ قَوْلِهِ: " «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» "، قَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا مِنْ بَدِيعِ فِقْهِ عَائِشَةَ، وَمَعْرِفَتِهَا بِأَحْكَامِ الْأَلْفَاظِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا اقْتَضَى ظَاهِرُهَا رَفْعَ الْحَرَجِ مِنَ الطَّائِفِ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ نَصًّا فِي سُقُوطِ الْوُجُوبِ، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، وَلَوْ كَانَ نَصًّا لَقَالَ أَنْ لَا يَطُوفَ، وَقَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ وَاجِبًا، وَيَعْتَقِدُ إِنْسَانٌ أَنَّهُ قَدْ يُمْنَعُ مِنْ إِيقَاعِهِ عَلَى صِفَةٍ كَمَنْ عَلَيْهِ الظُّهْرُ، فَظَنَّ أَنَّهُ لَا يَشْرَعُ لَهُ صَلَاتُهَا عِنْدَ الْغُرُوبِ، فَسَأَلَ فَقِيلَ: لَا حَرَجَ عَلَيْكَ إِنْ صَلَّيْتَهُ، فَالْجَوَابُ صَحِيحٌ، وَلَا يَقْتَضِي نَفْيَ وُجُوبِ الظُّهْرِ عَلَيْهِ، ثُمَّ بَيَّنَتْ لَهُ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِنَفْيِ الْجُنَاحِ لِوُرُودِهِ عَلَى سَبَبٍ فَقَالَتْ: (إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَنْصَارِ) بِالرَّاءِ كَمَا عَزَاهُ الْخَطَّابِيُّ لِأَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَأَنَّ فِي بَعْضِهَا الْأَنْصَابَ - بِالْمُوَحَّدَةِ - بَدَلَ الرَّاءِ، قَالَ: فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَهُوَ جَمْعُ نُصُبٍ، وَهُوَ مَا يُنْصَبُ مِنَ الْأَصْنَامِ لِيُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، انْتَهَى.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَغَيْرُهُمَا: عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ قَرَأُوا الْآيَةَ أَنْ لَا يَطُوفَ، وَأَجَابَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّحَاوِيُّ بِحَمْلِهَا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَلَا زَائِدَةٌ، وَقَالَ غَيْرُهُمَا: لَا حُجَّةَ فِي الشَّوَاذِّ إِذَا خَالَفَتِ الْمَشْهُورَ، (كَانُوا يُهِلُّونَ) ، أَيْ يَحُجُّونَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمُوا، (لِمَنَاةَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَالنُّونِ الْخَفِيفَةِ، فَأَلِفٍ، ثُمَّ تَاءٍ مَخْفُوضٌ بِالْفَتْحَةِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّسَائِكَ كَانَتْ تُمَنَّى، أَيْ تُرَاقُ عِنْدَهَا وَهِيَ صَنَمٌ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: كَانَتْ صَخْرَةً نَصَبَهَا عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ لِهُذَيْلٍ، فَكَانُوا يَعْبُدُونَهَا.
(وَكَانَتْ مَنَاةُ حَذْوَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ - أَيْ مُقَابِلَ (قُدَيْدٍ) بِضَمِّ الْقَافِ، وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ، ثُمَّ مُهْمَلَةٌ، قَرْيَةٌ جَامِعَةٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ كَثِيرَةُ الْمِيَاهِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِالْمُشَلَّلِ مِنْ قُدَيْدٍ - بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، وَفَتْحِ اللَّامِ الْأُولَى - ثَنْيَةٌ مُشْرِفَةٌ عَلَى قُدَيْدٍ.
(وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ) - بِالْمُهْمَلَةِ، وَالْجِيمِ، أَيْ يَتَحَرَّزُونَ، (أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) ، أَيْ يَتْرُكُونَ ذَلِكَ خَشْيَةَ الْحَرَجِ، وَهُوَ الْإِثْمُ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: يَتَحَنَّثُ، وَيَتَأَثَّمُ، أَيْ يَنْفِي الْحِنْثَ وَالْإِثْمَ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَطُوفُونَ بَيْنَهُمَا، وَيَقْتَصِرُونَ عَلَى الطَّوَافِ بِمَنَاةَ.
(فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ) ، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ أَهْلٍ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي بِالْمُشَلَّلِ لَا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمُوا هُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute