(قَالَتْ: فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ) جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ وَقَعَتْ حَالًا، وَكَانَ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا بِسَرِفَ كَمَا صَحَّ عَنْهَا، وَذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ (فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ) لِأَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا تَدْخُلُهُ الْحَائِضُ (وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) لِأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ يَعْقُبَ الطَّوَافَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: عَطْفٌ عَلَى الْمَنْفِيِّ قَبْلَهُ عَلَى تَقْدِيرِ: وَلَمْ أَسْعَ، نَحْوَ عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ: وَلَمْ أَطُفْ، عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ لِمَا فِي الْحَدِيثِ: وَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى التَّقْدِيرِ دُونَ الِانْسِحَابِ لِئَلَّا يَلْزَمَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، انْتَهَى.
أَيْ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الطَّوَافِ الشَّرْعِيِّ لَمْ تُوجَدْ لِأَنَّهَا الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّهُ سُمِّيَ السَّعْيُ طَوَافًا عَلَى حَقِيقَتِهِ اللُّغَوِيَّةِ، فَالطَّوَافُ لُغَةً: الْمَشْيُ (فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ تَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ فَقُلْتُ: لَا أُصَلِّي، كَمَا فِي رِوَايَةٍ عَنْهَا فِي الصَّحِيحِ: كَنَّتْ بِذَلِكَ عَنِ الْحَيْضِ، وَهِيَ مِنْ لَطِيفِ الْكِنَايَاتِ.
وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ دُخُولَهُ عَلَيْهَا وَشَكْوَاهَا كَانَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ (فَقَالَ: انْقُضِي) بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ (رَأْسَكِ) أَيْ حُلِّي ضُفُرَ شَعْرِهِ (وَامْتَشِطِي) أَيْ سَرِّحِيهِ بِالْمُشْطِ (وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ وَدَعِي) : اتْرُكِي (الْعُمْرَةَ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَمَرَهَا أَنْ تَجْعَلَ عُمْرَتَهَا حَجًّا.
وَلِذَا قَالَتْ: يَرْجِعُ النَّاسُ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَرْجِعُ بِحَجٍّ، فَأَعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، وَاسْتَشْكَلَ إِذِ الْعُمْرَةُ لَا تُرْتَفَضُ كَالْحَجِّ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ قَدِيمًا، وَلَا حَدِيثًا.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَيْسَ الْعِلْمُ عَلَيْهِ فِي رَفْضِ الْعُمْرَةِ وَجَعْلِهَا حَجًّا، بِخِلَافٍ جَعْلِ الْحَجِّ عُمْرَةً فَإِنَّهُ وَقَعَ لِلصَّحَابَةِ، وَاخْتَلَفَ فِي جَوَازِهِ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَجَابَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ بِاحْتِمَالِ أَنَّ مَعْنَى: دَعِي عُمْرَتَكِ: اتْرُكِي التَّحَلُّلَ مِنْهَا ; أَدْخِلِي عَلَيْهَا الْحَجَّ فَتَصِيرَ قَارِنَةً، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: وَأَمْسِكِي عَنِ الْعُمْرَةِ، أَيْ عَنْ أَعْمَالِهَا، وَإِنَّمَا قَالَتْ: وَأَرْجِعُ بِحَجٍّ لِاعْتِقَادِهَا أَنَّ إِفْرَادَ الْعُمْرَةِ بِالْعَمَلِ أَفْضَلُ كَمَا وَقَعَ لِغَيْرِهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا: " «فَقَالَ لَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طَوَافُكِ يَسَعُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ» " فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا قَارِنَةٌ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ: انْقُضِي رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِي ظَاهِرٌ فِي إِبْطَالِ الْعُمْرَةِ، لِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ لِتَأْدِيَتِهِ إِلَى نَتْفِ الشَّعْرِ، وَأُجِيبَ بِجَوَازِهِمَا لِلْمُحْرَمِ وَحَيْثُ لَا يُؤَدِّي إِلَى نَتْفِ الشَّعْرِ مَعَ الْكَرَاهَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ لِأَذًى بِرَأْسِهَا، فَأَبَاحَ لَهَا ذَلِكَ كَمَا أَبَاحَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ الْحِلَاقَ لِأَذًى بِرَأْسِهِ، أَوْ نَقْضُ رَأْسِهَا لِأَجْلِ الْغُسْلِ لِتُهِلَّ بِالْحَجِّ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ تَلَبَّدَتْ فَتَحْتَاجُ إِلَى نَقْضِ الضُّفُرِ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالِامْتِشَاطِ تَسْرِيحُ شَعْرِهَا بِأَصَابِعِهَا بِرِفْقٍ حَتَّى لَا يَسْقُطَ مِنْهُ شَيْءٌ، ثُمَّ تُضَفِّرُهُ كَمَا كَانَ، أَوْ أَعَادَتِ الشَّكْوَى بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَأَبَاحَ لَهَا الِامْتِشَاطَ حِينَئِذٍ.
قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَهُوَ تَعَسُّفٌ بَعِيدٌ مِنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَكَانَ مَذْهَبُهَا أَنَّ الْمُعْتَمِرَ إِذَا دَخَلَ مَكَّةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute