للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أَشَدُّ الْحَنَقِ (مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ) أَيِ الْمَلَائِكَةِ النَّازِلِينَ بِهَا عَلَى الْوَاقِفِينَ بِعَرَفَةَ، وَهُوَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - لَا يُحِبُّ ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَرَى الرَّحْمَةَ نَفْسَهَا، وَلَعَلَّهُ رَأَى الْمَلَائِكَةَ تَبْسُطُ أَجْنِحَتَهَا بِالدُّعَاءِ لِلْحَاجِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَمِعَ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ: غُفِرَ لِهَؤُلَاءِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَعَلِمَ أَنَّهُمْ نَزَلُوا بِالرَّحْمَةِ، وَرُؤْيَتُهُ الْمَلَائِكَةَ لِلْغَيْظِ لَا لِلْإِكْرَامِ، قَالَهُ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ الْبَوْنِيُّ (وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ) الْكَبَائِرِ الَّتِي زَيَّنَهَا لَهُمْ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَكَانَ يَوَدُّ أَنْ يُهْلِكَهُمْ بِهَا وَانْتِقَالَهُمْ مِنْهَا إِلَى الْكُفْرِ، لِأَنَّهَا كَمَا قِيلَ بَرِيدُهُ؛ فَيَخْلُدُوا فِي الْعَذَابِ الْأَلِيمِ مِثْلَهُ (إِلَّا مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ) أَوَّلُ غَزْوَةٍ وَقَعَ فِيهَا الْقِتَالُ، وَكَانَتْ فِي ثَانِيَةِ الْهِجْرَةِ (قِيلَ: وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَمَا) بِالتَّخْفِيفِ (إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالزَّايِ الْمَنْقُوطَةِ وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ، أَيْ يَصِفُّ (الْمَلَائِكَةَ) لِلْقِتَالِ وَيَمْنَعُهُمْ أَنْ يَخْرُجَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ فِي الصَّفِّ، قَالَ الشَّاعِرُ:

وَلَا يَزَعُ النَّفْسُ اللَّحُوحُ عَنِ الْهَوَى ... مِنَ النَّاسِ إِلَّا وَافِرَ الْعَقْلِ كَامِلُهُ

وَقِيلَ مَعْنَاهُ: يَكُفُّهُمْ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذْ لَوْ رَأَى ذَلِكَ لَأَحَبَّهُ، وَلَكِنَّهُ رَآهُ يُعَبِّيهِمْ لِلْقَتَّالِ، وَالْمُعَبِّي يُسَمَّى وَازِعًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: ١٧] (سُورَةُ النَّمْلِ: الْآيَةُ ١٧) أَيْ يَحْبِسُ أَوَّلَهَمْ عَلَى آخِرِهِمْ، وَفِيهِ فَضْلُ الْحَجِّ وَشُهُودُ عَرَفَةَ وَسِعَةُ فَضْلِ اللَّهِ عَلَى الْمُذْنِبِينَ.

وَفِي مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: " «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرُ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبِيدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو وَيَتَجَلَّى ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ» " وَلِأَحْمَدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: " «إِنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ أَهْلَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُ لَهُمْ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا» "، وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ: " «مَا مِنْ يَوْمٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، يَنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُبَاهِي بِأَهْلِ الْأَرْضِ أَهْلَ السَّمَاءِ فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاجِّينَ جَاءُوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يَرْجُونَ رَحْمَتِي وَلَمْ يَرَوْا عِقَابِي، فَلَمْ يُرَ يَوْمًا أَكْثَرُ عِتْقًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ» "، زَادَ الْبَيْهَقِيُّ: " «فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: إِنَّ فُلَانًا فِيهِمْ، وَهُوَ مُرْهَقٌ، فَيَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُ» ".

<<  <  ج: ص:  >  >>