- (مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) بِقُدْرَتِهِ أَوْ فِي مُلْكِهِ (لَا يُكْلَمُ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَفَتْحِ اللَّامِ أَيْ يُجْرَحُ (أَحَدٌ) مُسْلِمٌ كَمَا قُيِّدَ بِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) أَيِ الْجِهَادِ (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالْمُسْتَثْنَى مُؤَكِّدَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَعْنَى الْمُعْتَرَضِ فِيهِ وَتَفْخِيمِ شَأْنِ مَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: ٣٦] (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: الْآيَةُ ٩٣) أَيْ بِالشَّيْءِ الَّذِي وَضَعَتْ وَمَا عَلَقَ بِهِ مِنْ عَظَائِمِ الْأُمُورِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَتْمِيمًا لِلصِّيَانَةِ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَتَنْبِيهًا عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي الْغَزْوِ، وَأَنَّ الثَّوَابَ الْمَذْكُورَ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَخْلَصَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا.
(إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الْمُثَلَّثَةِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ فَمُوَحَّدَةٍ (دَمًا) أَيْ يَجْرِي مُتَفَجِّرًا أَيْ كَثِيرًا (اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ) أَيْ كَرِيحِهِ إِذْ لَيْسَ هُوَ مِسْكًا حَقِيقَةً بِخِلَافِ لَوْنِ الدَّمِ فَلَا تَقْدِيرَ فِيهِ لِأَنَّهُ دَمٌ حَقِيقَةً فَلَيْسَ لَهُ مِنْ أَحْكَامِ الدِّمَاءِ وَصِفَاتِهَا إِلَّا اللَّوْنُ فَقَطْ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحِكْمَةُ كَذَلِكَ لِيَكُونَ مَعَهُ شَاهِدُ فَضِيلَتِهِ بِبَذْلِهِ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى مَنْ ظَلَمَهُ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ أَوْ تَبْرَأَ جِرَاحَتُهُ.
قَالَ الْحَافِظُ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا مَاتَ صَاحِبُهُ بِهِ قَبْلَ انْدِمَالِهِ لَا مَا انْدَمَلَ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ أَثَرَ الْجِرَاحَةِ وَسَيَلَانَ الدَّمِ يَزُولُ، وَلَا يَنْفِي ذَلِكَ أَنَّ لَهُ فَضْلًا فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الَّذِي يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا مَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا كَذَلِكَ.
وَيُؤَيِّدُهُ مَا لِابْنِ حِبَّانَ عَنْ مُعَاذٍ: " عَلَيْهِ طَابَعُ الشُّهَدَاءِ " وَلِأَصْحَابِ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا: " «مَنْ جُرِحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ نُكِبَ نَكْبَةً فَإِنَّهَا تَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَغْزَرِ مَا كَانَتْ لَوْنُهَا الزَّعْفَرَانُ وَرِيحُهَا الْمِسْكُ» " قَالَ: وَعُرِفَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ أَنَّ الصِّفَةَ الْمَذْكُورَةَ لَا تَخْتَصُّ بِالشَّهِيدِ بَلْ تَحْصُلُ لِكُلِّ مَنْ جُرِحَ انْتَهَى.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَالُوا وَهَذَا الْفَضْلُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ جُرِحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَفِي إِقَامَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» " لَكِنْ تَوَقَّفَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ فِي دُخُولِ مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ فِي هَذَا الْفَضْلِ لِإِشَارَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى اعْتِبَارِ الْإِخْلَاصِ بِقَوْلِهِ: " وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ " وَالْمُقَاتِلُ دُونَ مَالِهِ لَا يَقْصِدُ وَجْهَ اللَّهِ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا يَقْصِدُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute