أَوَّلُ مَا رَكِبَ الْمُسْلِمُونَ الْبَحْرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ فَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ غَزْوِهِمْ قَافِلِينَ نَزَلُوا الشَّامَ فَقُرِّبَتْ إِلَيْهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَصَرَعَتْهَا فَمَاتَتْ.
وَلَهُ أَيْضًا: فَلَمَّا قُرِّبَتْ لَهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَوَقَعَتْ فَانْدَقَّتْ عُنُقُهَا.
وَلِمُسْلِمٍ مَرْفُوعًا: " «مَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» " وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ مَرْفُوعًا: " «مَنْ صُرِعَ عَنْ دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ فَهُوَ شَهِيدٌ» " أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ فَفِي حَدِيثِ أُمِّ حَرَامٍ أَنَّ حُكْمَ الرَّاجِعِ مِنَ الْغَزْوِ حُكْمُ الذَّاهِبِ إِلَيْهِ فِي الثَّوَابِ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أُمِّ حَرَامٍ أَيْضًا مَرْفُوعًا: " «أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا، قُلْتُ: أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَ: أَنْتِ مِنْهُمْ، ثُمَّ قَالَ: أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ، فَقُلْتُ: أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَ: لَا» " قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِيهِ مَنْقَبَةٌ لِمُعَاوِيَةَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَزَا الْبَحْرَ، وَلِابْنِهِ يَزِيدَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَزَا مَدِينَةَ قَيْصَرَ وَهِيَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ.
وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ وَابْنُ التِّينِ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ دُخُولِهِ فِي ذَلِكَ الْعُمُومِ أَنْ لَا يَخْرُجَ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ، إِذْ لَا خِلَافَ أَنَّ قَوْلَهُ مَغْفُورٌ لَهُمْ مَشْرُوطٌ بِأَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْمَغْفِرَةِ حَتَّى لَوِ ارْتَدَّ وَاحِدٌ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعُمُومِ اتِّفَاقًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: مَغْفُورٌ لِمَنْ وُجِدَ شَرْطُ الْمَغْفِرَةِ فِيهِ مِنْهُمْ، وَاحْتِمَالُ أَنَّ يَزِيدَ لَمْ يَحْضُرْ مَعَ الْجَيْشِ مَرْدُودٌ إِلَّا أَنْ يُرَادَ: لَمْ يُبَاشِرِ الْقِتَالَ فَيُمْكِنُ لِأَنَّهُ كَانَ أَمِيرًا عَلَى ذَلِكَ الْجَيْشِ اتِّفَاقًا مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ، وَكَانَ فِيهِ أَبُو أَيُّوبَ فَمَاتَ فَدُفِنَ عِنْدَ بَابِ مَدِينَةِ قَيْصَرَ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَفِيهِ جَوَازُ رُكُوبِ الْبَحْرِ الْمِلْحِ، وَذَكَرَ مَالِكٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مَنَعَ مِنْهُ فَلَمَّا مَاتَ اسْتَأْذَنَ مُعَاوِيَةُ عُثْمَانَ فَأَذِنَ لَهُ فِي رُكُوبِهِ فَلَمْ يَزَلْ يُرْكَبُ إِلَى أَيَّامِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَمَنَعَ مِنْ رُكُوبِهِ ثُمَّ رُكِبَ بَعْدَهُ إِلَى الْآنَ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَإِنَّمَا مَنَعَ الْعُمَرَانِ رُكُوبَهُ فِي التِّجَارَةِ وَطَلَبِ الدُّنْيَا أَمَّا فِي الْجِهَادِ وَالْحَجِّ فَلَا، وَقَدْ أَبَاحَتِ السُّنَّةُ رُكُوبَهُ لِلْجِهَادِ، فَالْحَجُّ الْمُفْتَرَضُ أَوْلَى.
قَالَ: وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يُجِيزُونَ رُكُوبَهُ فِي طَلَبِ الْحَلَالِ إِذَا تَعَذَّرَ الْبَرُّ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي حُرْمَةِ رُكُوبِهِ عِنْدَ ارْتِجَاجِهِ، وَكَرِهَ مَالِكٌ رُكُوبَ النِّسَاءِ الْبَحْرَ لِمَا يُخْشَى مِنِ اطِّلَاعِهِنَّ عَلَى عَوْرَاتِ الرِّجَالِ وَعَكْسِهِ إِذْ يَعْسُرُ الِاحْتِرَازُ مِنْ ذَلِكَ، وَخَصَّهُ أَصْحَابُهُ بِالسُّفُنِ الصِّغَارِ، أَمَّا الْكِبَارُ الَّتِي يُمْكِنُ فِيهَا الِاسْتِتَارُ بِأَمَاكِنَ تَخُصُّهُمْ فَلَا حَرَجَ وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْقَائِلَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِعَانَةِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ، وَعَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِمَا سَيَقَعُ فَوَقَعَ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَضْلُ شَهِيدِ الْبَحْرِ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ هَلْ هُوَ أَفْضَلُ لِحَدِيثِ: " «مَنْ لَمْ يُدْرِكِ الْغَزْوَ مَعِي فَلْيَغْزُ فِي الْبَحْرِ فَإِنَّ غَزَاةً فِي الْبَحْرِ أَفْضَلُ مِنْ غَزْوَتَيْنِ فِي الْبَرِّ» " الْحَدِيثَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَشَهِيدُ الْبَرِّ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ» " وَفِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَفِي الِاسْتِئْذَانِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.