مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَيَحْلِفُ لِيَبْرَأَ أَوْ يَتْرُكَ وَيَغْرَمَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْيَمِينَ بِاللَّهِ مُبَاحَةٌ لِأَنَّ أَقَلَّ مَرَاتِبِ الْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُ وَهُوَ الصَّحِيحُ نَقْلًا لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَفَ كَثِيرًا وَأَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ. {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: ٥٣] (سُورَةُ يُونُسَ: الْآيَةُ ٥٣) وَنَظَرًا لِأَنَّهُ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَ " مِنْ " شَرْطِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَكَانَ وَاسْمُهَا وَخَبَرُهَا فِي مَحَلِّ الْخَبَرِ، وَظَاهِرُهُ تَخْصِيصُ الْحَلِفِ بِاللَّهِ خَاصَّةً، لَكِنِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ بِاللَّهِ وَذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ الْعَلِيَّةِ، فَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ بِاللَّهِ الذَّاتُ لَا خُصُوصُ لَفْظِ اللَّهِ، فَمَنْ حَلَفَ بِغَيْرِهِ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ كَانَ الْمَحْلُوفُ بِهِ يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكَعْبَةِ أَوْ لَا كَالْآحَادِ، أَوْ يَسْتَحِقُّ التَّحْقِيرَ كَالشَّيَاطِينِ وَالْأَصْنَامِ، وَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ لِإِقْدَامِهِ عَلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ وَلَا كَفَّارَةَ، نَعَمْ اسْتَثْنَى بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ مِنْ ذَلِكَ الْحَلِفَ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ بِهِ، لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدُ رُكْنَيِ الشَّهَادَةِ الَّتِي لَا تَتِمُّ إِلَّا بِهِ، وَلَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ انْعِقَادُ الْيَمِينِ بِهِ، بَلْ وَلَا جَوَازُ الْحَلِفِ بِهِ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ صِحَّةِ هَذَا النَّهْيِ الصَّرِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، وَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ كَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِيُعَجِّبَ بِهَا الْمَخْلُوقِينَ وَيُعَرِّفَهُمْ قُدْرَتَهُ لِعِظَمِ شَأْنِهَا عِنْدَهُمْ وَلِدَلَالَتِهَا عَلَى خَالِقِهَا، أَمَّا الْمَخْلُوقُ فَلَا يُقْسِمُ إِلَّا بِالْخَالِقِ كَمَا قِيلَ:
وَيُقَبِّحُ مَنْ سِوَاكَ الشَّيْءَ عِنْدِي وَتَفْعَلُهُ فَيَحْسُنُ مِنْكَ ذَاكَا وَزَادَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا حَلَفْتُ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ؛ أَيْ: حَاكِيًا عَنْ غَيْرِي، أَيْ: مَا حَلَفْتُ بِأَبِي عَامِدًا وَلَا حَاكِيًا عَنْ غَيْرِي وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الْحَاكِيَ لَا يُسَمَّى حَالِفًا، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعَامِلَ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ: وَلَا ذَكَرْتُهَا آثِرًا عَنْ غَيْرِي أَوْ ضَمَّنَ " حَلَفْتُ " مَعْنَى " تَكَلَّمْتُ "، أَوْ مَعْنَاهُ يَرْجِعُ إِلَى التَّفَاخُرِ بِالْآبَاءِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا حَلَفْتُ بِآبَائِي ذَاكِرًا لِمَآثِرِهِمْ، وَحَدِيثُ الْبَابِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ بِهِ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute