لِعِزَّتِهَا فِي بِلَادِهِمْ، بِخِلَافِ الْأَنْعَامِ فَأَكْثَرُ انْتِفَاعِهِمْ بِهَا كَانَ لِحَمْلِ الْأَثْقَالِ وَلِلْأَكْلِ، فَاقْتَصَرَ فِي كُلٍّ مِنَ الصِّنْفَيْنِ عَلَى الِامْتِنَانِ بِأَغْلَبِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ فَلَوْ حَصَرَ فِي الرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ لَأَضَرَّ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مَمْنُوعٌ، وَسَنَدُهُ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالِامْتِنَانِ غَالِبُ مَا يُقْصَدُ بِهِ، وَلَا مَشَقَّةَ فِي الْحَصْرِ فِي الرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ بَلْ هُمَا مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ الْمُمْتَنِّ بِهَا.
وَأُجِيبَ عَنِ الرَّابِعِ بِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَ مِنَ الْإِذْنِ فِي أَكْلِهَا أَنْ تَفْنَى لَلَزِمَ مِثْلُهُ فِي الْأَنْعَامِ الْمُبَاحِ أَكْلُهَا وَقَدْ وَقَعَ الِامْتِنَانُ بِهَا، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْفَرْقَ مَوْجُودٌ لِأَنَّ مَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِالِامْتِنَانِ بِأَكْلِهِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ مَا وَقَعَ فِيهِ الِامْتِنَانُ بِأَنَّهُ لِلرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ فَاللَّازِمُ مَمْنُوعٌ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لُحُومَ الْخَيْلِ وَيَقْرَأُ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} [النحل: ٥] [سُورَةُ النَّحْلِ: الْآيَةُ ٥] الْآيَةَ، وَيَقُولُ: هَذِهِ لِلْأَكْلِ، {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} [النحل: ٨] ، وَيَقُولُ هَذِهِ لِلرُّكُوبِ، فَهَذَا صَحَابِيٌّ مِنْ أَئِمَّةِ اللِّسَانِ وَمَقَامُهُ فِي الْقُرْآنِ مَعْلُومٌ، وَقَدْ سَبَقَ مَالِكًا عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: " «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ» " لَكِنْ ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمْ لَكِنَّهُ يَتَقَوَّى بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ إِلَى حِلِّ أَكْلِ الْخَيْلِ بِلَا كَرَاهَةٍ لِظَاهِرِ حَدِيثَيْ جَابِرٍ وَأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ وَقَدْ عُلِمَ مَا فِيهِ.
(قَالَ مَالِكٌ: وَالْقَانِعُ هُوَ الْفَقِيرُ أَيْضًا) وَقِيلَ هُوَ السَّائِلُ، قَالَ الشَّمَّاخُ: لَمَالُ الْمَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْنِي مَفَاقِرَهُ أَعَفُّ مِنَ الْقُنُوعِ، أَيِ: السُّؤَالِ، يُقَالُ مِنْهُ قَنِعَ قُنُوعًا إِذَا سَأَلَ، وَقَنِعَ قَنَاعَةً إِذَا رَضِيَ بِمَا أُعْطِيَ، وَأَصْلُ هَذَا كُلِّهِ الْفَقْرُ وَالْمَسْكَنَةُ وَضَعْفُ الْحَالِ قَالَهُ أَبُو عُمَرَ فَقَنِعَ بِزِنَةِ رَضِيَ وَمَعْنَاهُ، وَقَنَعَ بِفَتْحِ النُّونِ طَمِعَ وَسَأَلَ، وَقَدْ تَظَرَّفَ الْقَائِلُ:
الْعَبْدُ حُرٌّ إِنْ قَنِعَ ... وَالْحُرُّ عَبْدٌ إِنْ قَنَعْ
فَاقْنَعْ وَلَا تَقْنَعْ فَمَا ... شَيْءٌ يَشِينُ سِوَى الطَّمَعْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute