وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ النَّهْيَ، وَالْأَوْسَطُ أَقْوَاهَا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لِعُمَرَ (مُرْهُ) أَصْلُهُ اأْمُرْهُ بِهَمْزَتَيْنِ الْأُولَى لِلْوَصْلِ مَضْمُومَةٌ تَبَعًا لِلْعَيْنِ مِثْلَ افْعَلْ وَالثَّانِيَةُ فَاءُ الْكَلِمَةِ سَاكِنَةٌ تُبْدَلُ تَخْفِيفًا مِنْ جِنْسِ حَرَكَةِ سَابِقَتِهَا فَيُقَالُ اومُرْ، فَإِذَا وُصِلَ الْفِعْلُ بِمَا قَبْلَهُ زَالَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ وَسَكَنَتِ الْهَمْزَةُ الْأَصْلِيَّةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} [طه: ١٣٢] (سُورَةُ طه: الْآيَةُ ١٣٢) لَكِنِ اسْتَعْمَلَتْهَا الْعَرَبُ بِلَا هَمْزٍ فَقَالُوا " مُرْ " لِكَثْرَةِ الدَّوْرِ ; لِأَنَّهُمْ حَذَفُوا أَوَّلًا الْهَمْزَةَ الثَّانِيَةَ تَخْفِيفًا ثُمَّ حَذَفُوا هَمْزَةَ الْوَصْلِ اسْتِغْنَاءً عَنْهَا لِتَحَرُّكِ مَا بَعْدَهَا، أَيْ مُرِ ابْنَكَ عَبْدَ اللَّهِ (فَلْيُرَاجِعْهَا) وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ عِنْدَ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ، وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلِلنَّدْبِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي أَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِالرَّجْعَةِ أَبُوهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَضَعَ الشَّرْعَ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُبَلِّغٌ عَنْهُ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: ٢] (سُورَةُ الطَّلَاقِ: الْآيَةُ ٢) وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ بِالرَّجْعَةِ أَوِ الْفِرَاقِ بِتَرْكِهَا، فَيُجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَدِيثِ بِحَمْلِ الْأَمْرِ فِيهِ عَلَى النَّدْبِ جَمْعًا بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ بِنَاهِضٍ ; إِذِ الْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ وَيُخَصُّ عُمُومُ الْآيَاتِ بِمَنْ لَمْ يُطَلِّقْ فِي الْحَيْضِ (ثُمَّ يُمْسِكْهَا) أَيْ يُدِيمُ إِمْسَاكَهَا وَإِلَّا فَالرَّجْعَةُ إِمْسَاكٌ، وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى التَّمِيمِيِّ: ثُمَّ لْيَتْرُكْهَا، وَلِإِسْمَاعِيلَ: ثُمَّ لْيُمْسِكْهَا بِإِعَادَةِ اللَّامِ مَكْسُورَةً وَيَجُوزُ تَسْكِينُهَا بِقِرَاءَةِ: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: ٢٩] (سُورَةُ الْحَجِّ: الْآيَةُ ٢٩) فَالْكَسْرُ عَلَى الْأَصْلِ فِي لَامِ الْأَمْرِ فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ لَامِ التَّأْكِيدِ وَالسُّكُونُ لِلتَّخْفِيفِ إِجْرَاءً لِلْمُنْفَصِلِ مَجْرَى الْمُتَّصِلِ، وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ لْيَدَعْهَا (حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ) حَيْضَةً أُخْرَى (ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ) أَيْ بَعْدَ الطُّهْرِ مِنَ الْحَيْضِ الثَّانِي (وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ) وَفِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ: طَلَّقَهَا (قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ) وَلِإِسْمَاعِيلَ: يَمَسَّهَا أَيْ يُجَامِعَهَا، فَيُكْرَهُ فِي طُهْرٍ مَسَّ فِيهِ لِلتَّلْبِيسِ إِذْ لَا يَدْرِي أَحَمَلَتْ فَتَعْتَدُّ بِالْوَضْعِ أَوْ لَا فَبِالْأَقْرَاءِ، وَقَدْ يَظْهَرُ الْحَمْلُ فَيَنْدَمُ عَلَى الْفِرَاقِ، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى جَبْرِهِ عَلَى الرَّجْعَةِ كَالْمُطَلِّقِ فِي الْحَيْضِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ أَمَرَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الطَّلَاقَ إِلَى الطُّهْرِ الثَّانِي؟ أُجِيبَ بِأَنَّ حَيْضَ الطَّلَاقِ وَالطُّهْرِ التَّالِي لَهُ بِمَنْزِلَةِ قُرْءٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ طَلَّقَ فِيهِ لَصَارَ كَمُوقِعِ طَلْقَتَيْنِ فِي قُرْءٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِطَلَاقِ السُّنَّةِ، وَبِأَنَّهُ عَاقَبَهُ بِتَأْخِيرِ الطَّلَاقِ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ جَزَاءً بِمَا فَعَلَهُ مِنَ الْحَرَامِ وَهُوَ الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ، وَهَذَا مُعْتَرَضٌ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَعْلَمْ بِالتَّحْرِيمِ وَلِمَ يَتَحَقَّقْهُ وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِعُقُوبَتِهِ، قَالَهُ الْمَازِرِيُّ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَغَيُّظَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ أَنْ يَعْذِرَهُ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ فِي الظُّهُورِ لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، وَبِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ فَرَّطَ بِتَرْكِ السُّؤَالِ قَبْلَ الْفِعْلِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ فَعُوقِبَ عَلَى تَرْكِهِ السُّؤَالَ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ زَجْرًا لِغَيْرِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute